الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وابن سينا وأتباعه -كالرازي والآمدي والسهروردي المقتول وأتباعهم- سلكوا في إثبات واجب الوجود طريقة الاستدلال بالوجود وعظموها، وظن من ظن منهم أنها أشرف الطرق، وأنه لا طريق إلا وهو يفتقر إليها، حتى ظنوا أن طريقة الحدوث مفتقرة إليها.

وكل ذلك غلط، بل هي طريقة توجب إثبات واجب الوجود بلا ريب لو كانوا يفسرون الممكن بالممكن، الذي هو ممكن عند العقلاء، سلفهم وغير سلفهم، وهو الذي يكون موجودا تارة ومعدوما أخرى.

فأما إذا فسر الممكن بالممكن الذي ينقسم إلى قديم واجب بغيره وإلى محدث مسبوق بالعدم -كما هو قول ابن سينا وأتباعه- فلا يصح لهم على هذا الأصل الفاسد لا إثبات واجب بنفسه، ولا إثبات ممكن يدل على الواجب بنفسه.

وهذه الطريقة هي في الحقيقة مأخوذة من طريقة الحدوث، [ ص: 268 ] وطريقة الحدوث أكمل وأبين، فإن الممكن الذي يعلم أنه ممكن هو ما علم أنه وجد بعد عدمه، أو عدم بعد وجوده.

هذا الذي اتفق العقلاء على أنه ممكن، وهو الذي يستحق أن يسمى ممكنا بلا ريب، وهذا محدث، فإذا كل ممكن محدث.

وأما تقدير ممكن لم يزل واجبا بغيره، فأكثر العقلاء دفعوا ذلك، حتى القائلون بقدم العالم كأرسطو وأتباعه المتقدمين، وحتى هؤلاء الذين قالوا ذلك -ابن سينا وأتباعه- لا يجعلون هذا من الممكن، بل الممكن عندهم ما أمكن وجوده وعدمه، فكان موجودا تارة ومعدوما أخرى.

وإنما جعل هذا من الممكن ابن سينا وأتباعه -مع تناقضه وتصريحه بخلاف ذلك- لما سلكوا في إثبات واجب الوجود الاستدلال بالموجود على الواجب، فقالوا: كل ما سواه يكون ممكنا بنفسه واجبا بغيره، وجعلوا العالم قديما أزليا مع كونه ممكنا بنفسه.

وهذا خلاف قول سلفهم، وقول أئمة الطوائف سواهم، وخلاف ما صرحوا أيضا به، وهذا مما أنكره ابن رشد وغيره على ابن سينا، وبسط الكلام فيه له موضع آخر. [ ص: 269 ]

والمقصود هنا أن هؤلاء الذين يدعون أن كمال النفس هو الإحاطة بالمعقولات والعلم بالمجهولات، هذا اضطرابهم في أشرف المعلومات الموجودات، بل فيما لا تنجو النفوس إلا بمعرفته وعبادته، ولكن لما سلموا للفلاسفة أصولهم الفاسدة تورطوا معهم في محاراتهم، وصاروا يجرونهم كما يجر الملاحدة الباطنية الناس صنفا صنفا.

والفلسفة هي باطن الباطنية، ولهذا صار في هؤلاء نوع من الإلحاد، فقل أن يسلم من دخل مع هؤلاء في نوع من الإلحاد، في أسماء الله وآياته وتحريف الكلم عن مواضعه.

التالي السابق


الخدمات العلمية