الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                [ ص: 111 ] فصل

                                قال البخاري :

                                18 - باب

                                من قال : إن الإيمان هو العمل

                                لقول الله تعالى : وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون

                                وقال عدة من أهل العلم في قوله عز وجل : فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون عن قول : لا إله إلا الله .

                                وقال : لمثل هذا فليعمل العاملون

                                ثم خرج :

                                26 26 - حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل : أي العمل أفضل ؟ قال : " إيمان بالله ورسوله " . قيل : ثم ماذا ؟ قال : الجهاد في سبيل الله " . قيل : ثم ماذا ؟ قال : " حج مبرور " .

                                التالي السابق


                                مقصود البخاري بهذا الباب أن الإيمان كله عمل مناقضة لقول من قال : إن الإيمان ليس فيه عمل بالكلية ; فإن الإيمان أصله تصديق بالقلب .

                                وقد سبق ما قرره البخاري أن تصديق القلب كسب له وعمل ، ويتبع هذا التصديق قول اللسان .

                                مقصود البخاري هاهنا أن يسمى عملا أيضا .

                                أما أعمال الجوارح فلا ريب في دخولها في اسم العمل ، ولا حاجة إلى تقرير ذلك ; فإنه لا يخالف فيه أحد ، فصار الإيمان كله على ما قرره عملا .

                                [ ص: 112 ] والمقصود بهذا الباب تقرير أن قول اللسان عمله ، واستدل لذلك بقوله تعالى : وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون وقوله : لمثل هذا فليعمل العاملون

                                ومعلوم أن الجنة إنما يستحق دخولها بالتصديق بالقلب مع شهادة اللسان ، وبهما يخرج من يخرج من أهل النار ، فيدخل الجنة كما سبق ذكره .

                                وفي " المسند " عن معاذ بن جبل مرفوعا : " مفتاح الجنة لا إله إلا الله " .

                                وحكى البخاري عن عدة من أهل العلم أنهم قالوا في قوله تعالى : فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون عن قول : لا إله إلا الله . ففسروا العمل بقول كلمة التوحيد .

                                وممن روي عنه هذا التفسير ابن عمر ، ومجاهد .

                                ورواه ليث بن أبي سليم ، عن بشير بن نهيك ، عن أنس - موقوفا .

                                وروي عنه مرفوعا أيضا .

                                خرجه الترمذي وغربه .

                                وقال الدارقطني : ليث غير قوي ، ورفعه غير صحيح .

                                وقد خالف في ذلك طوائف من العلماء من أصحابنا وغيرهم كأبي عبد الله ابن بطة ، وحملوا العمل في هذه الآيات على أعمال الجوارح ، [ ص: 113 ] واستدلوا بذلك على دخول الأعمال في الإيمان .

                                وأما حديث أبي هريرة فهو يدل على أن الإيمان بالله ورسوله عمل ; لأنه جعله أفضل الأعمال ، والإيمان بالله ورسوله الظاهر أنه إنما يراد به الشهادتان مع التصديق بهما .

                                ولهذا ورد في حديث " بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله " ، وفي رواية ذكر الإيمان بالله ورسوله بدل الشهادتين . فدل على أن المراد بهما واحد ; ولهذا عطف في حديث أبي هريرة على هذا الإيمان " الجهاد " ثم " الحج " ، وهما مما يدخل في اسم الإيمان المطلق .

                                لكن الإيمان بالله أخص من الإيمان المطلق ، فالظاهر أنه إنما يراد بهما الشهادتان مع التصديق بهما ، فإذا سمى الشهادتين عملا دل على أن قول اللسان عمل .

                                وقد كان طائفة من المرجئة يقولون : الإيمان قول وعمل - موافقة لأهل الحديث ، ثم يفسرون العمل بالقول ، ويقولون : هو عمل اللسان .

                                وقد ذكر الإمام أحمد هذا القول عن شبابة بن سوار ، وأنكره عليه ، وقال : هو أخبث قول ، ما سمعت أن أحدا قال به ، ولا بلغني .

                                يعني أنه بدعة لم يقله أحد ممن سلف .

                                [ ص: 114 ] لعل مراده إنكار تفسير قول أهل السنة : الإيمان قول وعمل بهذا التفسير ; فإنه بدعة وفيه عي وتكرير ; إذ العمل على هذا هو القول بعينه ، ولا يكون مراده إنكار أن القول يسمى عملا .

                                ولكن روي عنه ما يدل على إنكار دخول الأقوال في اسم الأعمال ; فإنه قال في رواية أبي طالب ، في رجل طلق امرأته واحدة ونوى ثلاثا : قال بعضهم : له نيته ، ويحتج بقوله : " الأعمال بالنيات " .

                                قال أحمد : ما يشبه هذا بالعمل ، إنما هذا لفظ كلام المرجئة ، يقولون : القول هو عمل لا يحكم عليه بالنية ، ولا هو من العمل .

                                وهذا ظاهر في إنكار تسمية القول عملا بكل حال ، وأنه لا يدخل تحت قوله : " الأعمال بالنيات " .

                                وكذلك ذكر أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في كتاب " السنة " .

                                وهذا على إطلاقه لا يصح ; فإن كنايات الطلاق كلها أقوال ويعتبر لها النية ، وكذلك ألفاظ الإيمان والنذور أقوال ويعتبر لها النية ، وألفاظ عقود البيع والنكاح وغيرهما أقوال وتؤثر فيها النية عند أحمد كما تؤثر النية [في] بطلان نكاح التحليل وعقود التحليل على الربا .

                                وقد نص أحمد على أن من أعتق أمته ، وجعل عتقها صداقها - أنه يعتبر له النية ، فإن أراد نكاحها بذلك وعتقها انعقدا بهذا القول .

                                وكذلك ألفاظ الكفر المحتملة تصير بالنية كفرا .

                                وهذا كله يدل على أن الأقوال تدخل في الأعمال ، ويعتبر لها النية .

                                ومسألة الطلاق المذكورة فيها عن أحمد روايتان أيضا .

                                وقد خرج أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب " الطلاق " له بدخول القول [ ص: 115 ] في العمل ، وأن الأقوال تدخل في قوله صلى الله عليه وسلم : " الأعمال بالنيات "

                                وأبو عبيد محله من معرفة لغة العرب المحل الذي لا يجهله عالم .

                                وقد اختلف الناس لو حلف لا يعمل عملا أو لا يفعل فعلا ، فقال قولا - هل يحنث ؟ أم لا ؟ وكذا لو حلف " ليفعلن أو ليعملن " - هل يبر بالقول ؟ أم لا ؟

                                وقد حكى القاضي أبو يعلى في ذلك اختلافا بين الفقهاء ، وذكر هو في كتاب " الأيمان " له أنه لا يبر ولا يحنث بذلك .

                                وأخذه من رواية أبي طالب ، عن أحمد التي سبق ذكرها ، واستدل له بأن الأيمان يرجع فيها إلى العرف ، والقول لا يسمى عملا في العرف ; ولهذا يعطف القول على العمل كثيرا ، فيدل على تغايرهما عرفا واستعمالا .

                                ومن الناس من قال : القول يدخل في مسمى الفعل ، ولا يدخل في مسمى العمل ، وهو الذي ذكره ابن الخشاب النحوي وغيره .

                                وقد ورد تسمية القول فعلا في القرآن في قوله تعالى : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه



                                الخدمات العلمية