الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                              صفحة جزء
                                                              2899 كتاب الفرائض

                                                              1-باب في ميراث ذوي الأرحام

                                                              311 \ 2779 -عن المقدام وهو ابن معديكرب الكندي- قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ترك كلا فإلي، وربما قال إلى الله، وإلى رسوله، ومن ترك مالا فلورثته وأنا وارث من لا وارث له أعقل له وأرثه والخال وارث من لا وارث له، يعقل عنه ويرثه

                                                              وأخرجه النسائي وابن ماجه.

                                                              واختلف في هذا الحديث. فروي عن راشد بن سعد، عن أبي عامر الهوزني عن المقدام. وروي عن راشد بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - مرسلا.

                                                              وقال أبو بكر البيهقي في هذا الحديث: كان يحيى بن معين يضعفه، ويقول: ليس فيه حديث قوي.

                                                              وقال أيضا: "وقد أجمعوا على أن الخال الذي لا يكون ابن عم أو مولى لا يعقل بالخؤولة، فخالفوا الحديث الذي احتجوا به في العقل. فإن كان ثابتا [ ص: 298 ] فيشبه أن يكون في وقت كان يعقل بالخؤولة، ثم صار الأمر إلى غير ذلك. أو أراد خالا يعقل بأن يكون ابن عم أو مولى، أو اختار وضع ماله فيه إذا لم يكن له وارث سواه.

                                                              قال بعضهم: "الخال وراث من لا وارث له " يحتمل أن يكون على وجه السلب والنفي، كما قالوا: الصبر حيلة من لا حيلة له. ويحتمل أن يريد به: إذا كان عصبة. ويحتمل أن يريد به السلطان، فإنه يسمى خالا.

                                                              التالي السابق




                                                              قال ابن القيم رحمه الله: فهذا ما رد به حديث الخال وهي بأسرها وجوه ضعيفة.

                                                              أما قولهم: إن أحاديثه ضعاف، فكلام فيه إجمال، فإن أريد بها أنها ليست في درجة الصحاح التي لا علة فيها فصحيح، ولكن هذا لا يمنع الاحتجاج بها، ولا يوجب انحطاطها عن درجة الحسن، بل هذه الأحاديث وأمثالها هي الأحاديث الحسان، فإنها قد تعددت طرقها، ورويت من وجوه مختلفة، وعرفت مخارجها، ورواتها ليسوا بمجروحين ولا متهمين.

                                                              وقد أخرجها أبو حاتم بن حبان في صحيحه وحكم بصحتها.

                                                              وليس في أحاديث الأصول ما يعارضها.

                                                              وقد رويت من حديث المقدام بن معديكرب هذا، ومن حديث عمر بن الخطاب ذكره الترمذي عن حكيم بن حكيم عن أبي أمامة بن سهل بن [ ص: 299 ] حنيف قال " كتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الله ورسوله مولى من لا مولى له، والخال وارث من لا وارث له "، قال الترمذي هذا حديث حسن.

                                                              ورواه ابن حبان في صحيحه، ولم يصنع من أعل هذا الحديث بحكيم بن حكيم، وأنه مجهول شيئا، فإنه قد روى عنه سهيل بن صالح، وعبد الرحمن بن الحارث وعثمان بن حكيم أخوه.

                                                              ولم نعلم أن أحدا جرحه، ومثل هذا ترتفع عنه الجهالة، ويحتج بحديثه.

                                                              ومن حديث عائشة، ذكره الترمذي أيضا عن ابن جريج عن عمرو بن مسلم عن طاوس عن عائشة ترفعه: " الخال وارث من لا وارث له "، قال الترمذي: حسن غريب.

                                                              قال: وإلى هذا الحديث ذهب أكثر أهل العلم في توريث ذوي الأرحام.

                                                              وأما زيد بن ثابت فلم يورثهم.

                                                              وقد أرسله بعضهم ولم يذكر فيه عن عائشة تم كلامه.

                                                              وهذا على طريقة منازعينا لا يضر الحديث شيء لوجهين:

                                                              أحدهما: أنهم يحكمون بزيادة الثقة.

                                                              والذي وصله ثقة، وقد زاد، فيجب [ ص: 300 ] عندهم قبول زيادته.

                                                              الثاني: أنه مرسل قد عمل به أكثر أهل العلم، كما قال الترمذي، ومثل هذا حجة عند من لا يرى المرسل حجة، كما نص عليه الشافعي.

                                                              وأما حمل الحديث على الخال الذي هو عصبته: فباطل ينزه كلام الرسول عن أن يحمل عليه، لما يتضمنه من اللبس فإنه إنما علق الميراث بكونه خالا، فإذا كان سبب توريثه كونه ابن عم أو مولى، فعدل عن هذا الوصف الموجب للتوريث إلى وصف لا يوجب التوريث.

                                                              وعلق به الحكم. فهذا ضد البيان، وكلام الرسول منزه عن مثل ذلك.

                                                              وأما قوله: قد أجمعوا على أن الخال لا يكون ابن عم، أو مولى لا يعقل بالخؤولة، فلا إجماع في ذلك أصلا، وأين الإجماع ؟ ثم لو قدر أن الإجماع انعقد على خلافه في التعاقل، فلم ينعقد على عدم توريثه، بل جمهور العلماء يورثونه، وهو قول أكثر الصحابة، فكيف يترك القول بتوريثه لأجل القول بعدم تحمله في العاقلة ؟ وهذا حديث المسح على الجوربين والخمار، والمسح على العصائب والتساخين، والمسح على الناصية [ ص: 301 ] والعمامة قد أخذوا منه ببعضه دون بعض، وكذلك حديث بصرة ابن أبي بصرة في الذي تزوج امرأة فوجدها حبلى أخذوا ببعضه دون بعض، وهذا موجود في غير حديث.

                                                              وقوله: لو كان ثابتا يكون في وقت كان الخال يعقل بالخؤولة: فهو إشارة إلى النسخ الذي لا يمكن إثباته إلا بعد أمرين: أحدهما: ثبوت معارضه المقاوم له.

                                                              والثاني: تأخره عنه. ولا سبيل هنا إلى واحد من الأمرين.

                                                              وقوله: اختار وضع ماله فيه، يعني على سبيل الطعمة لا الميراث، فباطل لثلاثة أوجه:

                                                              أحدها: أن لفظ الحديث يبطله، فإنه قال " يرث ماله " وفي لفظ " يرثه ".

                                                              [ ص: 302 ] الثاني: أنه سماه وارثا، والأصل في التسمية الحقيقة، فلا يعدل عنها إلا بعد أمور أربعة:

                                                              أحدها: قيام دليل على امتناع إرادتها.

                                                              الثاني: بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي عينه مجازا له، ولا يكفي ذلك إلا بالثالث وهو: بيان استعماله فيه لغة، حتى لا يكون لنا وضع نحمل عليه لفظ النص.

                                                              وكثير من الناس يغفل عن هذه الثلاثة، ويقول: يحمل على كذا وكذا، وهذا غلط.

                                                              فإن الحمل ليس بإنشاء، وإنما هو إخبار عن استعمال اللفظ في ذلك المعنى الذي حمله عليه، وإن لم يكن مطابقا كان خبرا كاذبا، وإن أراد به أني أنشئ حمله على هذا المعنى، كما يظن كثير ممن لا تحقيق عنده: فهو باطل قطعا لا يحل لأحد أن يرتكبه، ثم يحمل كلام الشارع عليه.

                                                              الرابع: الجواب عن المعارض: وهو دليل إرادة الحقيقة، ولا يكفيه دليل امتناع إرادتها ما لم يجب عن دليل الإرادة.

                                                              الخامس: أن المخاطبين بهذا اللفظ فهموا منه الميراث، دون غيره، وهم الصحابة رضي الله عنهم، ولهذا كتب به عمر رضي الله عنه جوابا لأبي عبيدة حين سأله في كتابه عن ميراث الخال، وهم أحق الخلق بالإصابة في الفهم.

                                                              وقد علم بهذا بطلان حمل الحديث على أن الخال السلطان، وعلى أن [ ص: 303 ] المراد به السلب.

                                                              وكل هذه وجوه باطلة.

                                                              وأسعد الناس بهذه الأحاديث من ذهب إليها، وبالله التوفيق.




                                                              الخدمات العلمية