الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          [ ص: 9 ] القسم الأول

          في المبادئ الكلامية

          فنقول : اعلم أنه لما كانت أصول الفقه هي أدلة الفقه ، وكان الكلام فيها مما يحوج إلى معرفة الدليل ، وانقسامه إلى ما يفيد العلم أو الظن ، وكان ذلك مما لا يتم دون النظر ، دعت الحاجة إلى تعريف معنى الدليل ، والنظر والعلم والظن من جهة التحديد والتصوير لا غير .

          أما الدليل ، فقد يطلق في اللغة بمعنى الدال ، وهو الناصب للدليل .

          وقيل : هو الذاكر للدليل ، وقد يطلق على ما فيه دلالة وإرشاد ، وهذا هو المسمى دليلا في عرف الفقهاء ، وسواء كان موصلا إلى علم أو ظن .

          والأصوليون يفرقون بين ما أوصل إلى العلم ، وما أوصل إلى الظن ، فيخصون اسم الدليل بما أوصل إلى العلم ، واسم الأمارة بما أوصل إلى الظن .

          [1] وعلى هذا فحده على أصول الفقهاء : أنه الذي يمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري .

          فالقيد الأول : احتراز عما لم يتوصل به إلى المطلوب لعدم النظر فيه ، فإنه لا يخرج بذلك عن كونه دليلا لما كان التوصل به ممكنا .

          والقيد الثاني : احتراز عما إذا كان الناظر في الدليل بنظر فاسد .

          والثالث : احتراز عن الحد الموصل إلى العلم التصوري ، وهو عام للقاطع والظني .

          وأما حده على العرف الأصولي ، فهو ما يمكن التوصل به إلى العلم بمطلوب خبري ، وهو منقسم : إلى عقلي محض ، وسمعي محض ، ومركب من الأمرين .

          [ ص: 10 ] فالأول كقولنا في الدلالة على حدوث العالم : العالم مؤلف ، وكل مؤلف حادث فيلزم عنه العالم حادث .

          [2] والثاني : كالنصوص من الكتاب والسنة والإجماع والقياس ، كما يأتي تحقيقه .

          والثالث : كقولنا في الدلالة على تحريم النبيذ : النبيذ مسكر ، وكل مسكر حرام - لقوله عليه السلام : ( كل مسكر حرام ) - فيلزم عنه النبيذ حرام .

          [3] وأما النظر ، فإنه قد يطلق في اللغة بمعنى الانتظار ، وبمعنى الرؤية بالعين ، والرأفة ، والرحمة ، والمقابلة ، والتفكر ، والاعتبار . وهذا الاعتبار الأخير هو المسمى بالنظر في عرف المتكلمين .

          وقد قال القاضي أبو بكر في حده : " هو الفكر الذي يطلب به من قام به علما أو ظنا .

          وقد احترز بقوله : " يطلب به " عن الحياة وسائر الصفات المشروطة بالحياة ، فإنها لا يطلب بها ذلك وإن كان من قامت به يطلبه ، وقصد بقوله : ( علما أو ظنا ) التعميم للعلم والظن ; ليكون الحد جامعا ، وهو حسن ، غير أنه يمكن أن يعبر عنه بعبارة أخرى لا يتجه عليها من الإشكالات ما قد يتجه على عبارة القاضي ، على ما بيناه في ( أبكار الأفكار ) وهو أن يقال : النظر عبارة عن التصرف بالعقل في الأمور السابقة بالعلم والظن . . المناسبة للمطلوب بتأليف خاص قصدا لتحصيل ما ليس حاصلا في العقل ، وهو عام للنظر المتضمن للتصور والتصديق ، والقاطع والظني .

          وهو منقسم إلى ما وقف الناظر فيه على وجه دلالة الدليل على المطلوب [ ص: 11 ] فيكون صحيحا ، وإلى ما ليس كذلك فيكون فاسدا . وشرط وجوده مطلقا : العقل ، وانتفاء أضداده من النوم والغفلة والموت ، وحصول العلم بالمطلوب ، وغير ذلك .

          وأما العلم ، فقد اختلف المتكلمون في تحديده فمنهم من زعم أنه لا سبيل إلى تحديده ، لكن اختلف هؤلاء فمنهم من قال : بيان طريق تعريفه إنما هو بالقسمة والمثال كإمام الحرمين والغزالي ، وهو غير سديد ، فإن القسمة إن لم تكن مفيدة لتمييزه عما سواه فليست معرفة له ، وإن كانت مميزة له عما سواه ، فلا معنى للتحديد بالرسم سوى هذا .

          ومنهم من زعم أن العلم بالعلم ضروري غير نظري ; لأن كل ما سوى العلم لا يعلم إلا بالعلم ، فلو علم العلم بالغير كان دورا ؛ ولأن كل أحد يعلم وجود نفسه ضرورة ، والعلم أحد تصورات هذا التصديق فكان ضروريا ، وهو أيضا غير سديد . أما الوجه الأول : فلأن جهة توقف غير العلم على العلم من جهة كون العلم إدراكا له ، وتوقف العلم على الغير لا من جهة كون ذلك الغير إدراكا للعلم ، بل من جهة كونه صفة مميزة له عما سواه ، ومع اختلاف جهة التوقف فلا دور . وأما الوجه الثاني : فهو مبني على أن تصورات القضية الضرورية لا بد وأن تكون ضرورية ، وليس كذلك لأن القضية الضرورية هي التي يصدق العقل بها بعد تصور مفرداتها من غير توقف بعد تصور المفردات على نظر واستدلال ، وسواء كانت التصورات ضرورية أو نظرية .

          ومنهم من سلك في تعريفه التحديد ، وقد ذكر في ذلك حدود كثيرة أبطلناها في ( أبكار الأفكار ) والمختار في ذلك أن يقال : ( العلم عبارة عن صفة يحصل بها لنفس المتصف بها التمييز بين حقائق المعاني الكلية حصولا لا يتطرق إليه احتمال نقيضه ) .

          فقولنا : ( صفة ) كالجنس له ولغيره من الصفات ، وقولنا : ( يحصل بها التميز ) احتراز عن الحياة ، وسائر الصفات المشروطة بالحياة . وقولنا : ( بين حقائق [ ص: 12 ] الكليات ) احتراز عن الإدراكات الجزئية ، فإنها إنما تميز بين المحسوسات الجزئية دون الأمور الكلية ، وإن سلكنا مذهب الشيخ أبي الحسن في أن الإدراكات نوع من العلم ، لم نحتج إلى التقييد بالكليات .

          وهو منقسم إلى قديم [4] لا أول لوجوده ، وإلى حادث بعد العدم ، والحادث ينقسم إلى : ضروري ، وهو العلم الحادث الذي لا قدرة للمكلف على تحصيله بنظر واستدلال ، فقولنا : ( العلم الحادث ) احتراز عن علم الله تعالى . [5] ، وقولنا : ( لا قدرة للمكلف على تحصيله بنظر واستدلال ) احتراز عن العلم النظري ، والنظري هو العلم الذي تضمنه النظر الصحيح .

          وأما الظن فعبارة عن ترجح أحد الاحتمالين في النفس على الآخرة من غير القطع .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية