الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم )

                          [ ص: 205 ] الكلام متصل بما قبله ومرتبط به ارتباطا محكما ، والخطاب للفاسقين الذين يضلون بالمثل ؛ فإنه وصفهم أولا بنقض العهد الإلهي الموثق ، وقطع ما أمر به سبحانه أن يوصل ، سواء كان الأمر أمر تكوين وهو السنن الكونية ، أو أمر تشريع وهو الديانة السماوية ، ثم بعد هذا البيان جاء بهذا الاستفهام التعجبي عن صفة كفرهم مقترنا بالبرهان الناصع على أنه لا وجه له ولا شبهة تسوغ الإقامة عليه ، فقال : ( كيف تكفرون بالله ) أي بأي صفة من صفات الكفر بالله - تعالى - تأخذون ، وعلى أية شبهة فيه تعتمدون ، وحالكم في موتتيكم وحياتيكم تأبى عليكم ذلك ولا تدع لكم عذرا فيه ؟ وبين هذه الحال بقوله : ( وكنتم أمواتا فأحياكم ) أي والحال أنكم كنتم قبل هذه النشأة الأولى من حياتكم الدنيا أمواتا منبثة أجزاؤكم في الأرض ، بعضها في طبقتها الجامدة وبعضها في طبقتها السائلة وبعضها في طبقتها الغازية ( الهوائية ) لا فرق في ذلك بينها وبين أجزاء سائر الحيوان والنبات ، فخلقكم أطوارا من سلالة من طين فكنتم بالطور الأخير في أحسن تقويم ، وفضلكم على غيركم بما وهبكم من العقل والإدراك ، وما سخر لكم من الكائنات ( ثم يميتكم ) بقبض الروح الحي الذي به نظام حياتكم هذه فتنحل أبدانكم بمفارقته إياها وتعود إلى أصلها الميت ؛ وتنبث في طبقات الأرض وتدغم في عوالمها حتى ينعدم هذا الوجود الخاص بها ( ثم يحييكم ) حياة ثانية كما أحياكم بعد الموتة الأولى بلا فرق إلا ما تكون به الحياة الثانية أرقى في مرتبة الوجود وأكمل لمن يزكون أنفسهم في تلك ، وأدنى منها وأسفل فيمن يدسونها ويفسدون فطرتها ( قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ) ( 91 : 9 - 10 ) ( ثم إليه ترجعون ) فينبئكم بما عملتم ، ويحاسبكم على ما قدمتم ، ويجازيكم به . وأقول : إن تراخي الإرجاع إلى الله - تعالى - عن حياة البعث عبارة عن تأخير الحساب والجزاء طول زمن الوقوف والانتظار كما ورد في حديث الشفاعة العظمى وغيره ، فإذا كان هذا شأنكم معه وهذا فضله عليكم ، وهذا مبدؤكم وذلك منتهاكم ، فكيف تكفرون به وتنكرون عليه أن يضرب لكم مثلا تهتدون به ، ويبعث فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياته ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون من قيام مصالحكم في حياتكم الأولى ، وسعادتكم في حياتكم الأخرى ؟ .

                          لا يقال : كيف يحتج عليهم بالحياة الثانية قبل الإيمان بالوحي الذي هو دليلها ومثبتها ؟ لأنه احتجاج على مجموع الناس بما عليه الأكثرون منهم ، ولا عبرة بالشذاذ المنكرين للبعث في هذا المقام ؛ لأن الاحتجاج بالحياة الأولى بعد الموتة الأولى كاف للتعجب من كفرهم بالله وإنكارهم عليه أن يضرب مثلا ما لهداية الناس زعما أن هذا لا يليق بعظمته ، فإن من أوجد هذا الإنسان الكريم ، وجعله في أحسن تقويم ، وركب صورته من تلك الذرات الصغيرة والنطفة المهينة الحقيرة ، والعلقة الدموية أو الدودية ، والمضغة اللحمية ( لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ) والكلام مسوق لإبطال شبه منكري المثل والقرآن الذي جاء به ، [ ص: 206 ] لا لإبطال شبه منكري البعث بلوامع شهبه ، ثم إن تمثيل إحدى الحياتين بعد الموت بالأخرى داحض لحجة من يزعم عدم إمكان الثانية ؛ لأن ما جاز في أحد المثلين جاز في الآخر ، والكلام في إثبات الوحي الإلهي للنبي المرسل من البشر والإيمان بالبعث تابع له .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية