الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 71 - 72 ] باب موات الأرض

موات الأرض . ما سلم عن الاختصاص [ ص: 73 ] بعمارة [ ص: 74 ] ولو اندرست ، إلا لإحياء .

التالي السابق


( باب ) في بيان الموات وإحيائه وما يتعلق به ( موات ) بفتح الميم ويقال له أيضا موتان بفتح الميم والواو وميتة . وأما بضم الميم والموتان بضمها فهما الموت الذريع ، أي حقيقة موات ( الأرض ما ) أي أرض جنس شمل كل أرض ( سلم ) جرده من تاء التأنيث مراعاة للفظ ما ، أي خلا ( عن الاختصاص ) أي كونه مختصا بأحد ، فصل مخرج غير الموات . ابن عرفة إحياء الموات لقب لتعمير دائر الأرض بما يقتضي عدم انصراف المعمر عن انتفاعه بها وموات الأرض . قال ابن رشد روى ابن غانم موات الأرض هي لا نبات بها لقوله تعالى { فأحيينا به الأرض بعد موتها } فاطر ، فلا يصح الإحياء إلا في البور . ثم قال ابن عرفة ابن الحاجب الموات الأرض المنفكة عن الاختصاص فتبع مع ابن شاس الغزالي ، وتركا رواية ابن غانم ، وهي أجلى لعدم توقف تصور مدلولها على الاختصاص وموجبه . [ ص: 73 ] طفي هذا التعريف للغزالي ارتكبه ابن شاس وابن الحاجب ، وتبعهما المصنف مع أنه مخالف لاصطلاح أهل المذهب ، وذلك أنهم فسروا الموات بالسالم عن الاختصاص والاختصاص يكون بأسباب لا تكون الأرض غير موات إلا باستيفائها . ابن شاس الموات الأرض المنفكة عن الاختصاص ، والاختصاص أنواع ، ثم ذكر الأنواع التي ذكرها المصنف فاقتضى كلامه أن حريم العمارة لا يسمى مواتا ، وهو يخالف قوله حين تكلم على الإحياء . الموات قسمان : قريب من العمران وبعيد ، فالقريب يفتقر إحياؤه لإذن الإمام لوقوع التشاح فيه ، بخلاف البعيد ، وهو ما خرج عما يحتاجه أهل العمارة من محتطب ومرعى إلخ ، وكذا أهل المذهب يطلقون على الحريم مواتا قريبا كان أو بعيدا ، فاعجب من هؤلاء الأئمة كيف ارتكبوا هذا الحد ولم يتنبهوا أنه مناقض لكلام أهل المذهب ، بل لكلامهم ، ، فالصواب في تعريف الموات على اصطلاح أهل المذهب ما لم يعمر من الأرض كما قال عياض وصاحب اللباب ، والمحياة ما عمرت ، والإحياء التعمير .

البناني وفي التوضيح إشارة إلى نحو هذا الإيراد عند تقسيم الموات إلى قريب وبعيد ، ويمكن الجواب عن المصنف بجعل قوله بعمارة من تمام التعريف ، فيخرج به كل ما وقع فيه الاختصاص بغير العمارة كالحريم والحمى وما أقطعه الإمام ، ويكون قوله ولو اندرست إلخ مبالغة على ما فهم من أن المعمر ليس بموات ، ويقدر لقوله وبحريمها عامل يناسبه والله أعلم .

قوله فيخرج به كذا في نسخة البناني التي بيدي ، وصوابه يدخل ، إذ المقصود إدخال الحريم والحمى والمقطع في الموات ، ولأن قيد القيد للإدخال كما هو معلوم . الحط وبدأ المصنف رحمه الله تعالى بتعريف الموات إما ; لأنه السابق في الوجود فلتقدمه طبعا قدمه وضعا ، وإما ; لأن حقيقة الموات واحدة والإحياء يكون بأمور كل منها مضاد الموات ، فاحتاج إلى ذكره أولا ليذكر أضداده بعده .

وصلة الاختصاص ( بعمارة ) بكسر العين المهملة ، أي تعمير ، فالأرض المعمرة ليست [ ص: 74 ] مواتا إن بقيت العمارة ، بل ( ولو اندرست ) أي فنيت العمارة وعادت الأرض لما كانت عليه قبل تعميرها فلا يزول اختصاص محييها عنها في كل حال ( إلا لإحياء ) من شخص آخر بعد طول اندراس عمارة الأول ، فيزول اختصاص الأول ويختص الثاني بها ، فيها من أحيا أرضا ميتة ثم تركها حتى دثرت وطال زمانها وهلكت أشجارها وتهدمت آبارها وعادت كأول مرة ثم أحياها غيره فهي لمحييها آخرا . ابن يونس قياسا على الصيد إذا أفلت ولحق بالوحش وطال زمانه ثم صاده آخر فهو للثاني .

قال الإمام مالك رضي الله تعالى عنه هذا إذا أحيا في غير أصل كان له ، فأما من ملك أرضا بخطة أو شراء ثم أسلمها فهي له وليس لأحد أن يحييها . الباجي من اشترى أرضا ثم اندرست فلا يرتفع ملكه عنها باندراسها اتفاقا . ابن رشد إنما يكون الثاني أحق بها إذا طالت المدة بعد اندراسها وعودها لحالها الأول . وأما إن أحياها الثاني بحدثان اندراسها وعودها لحالها الأول ، فإن كان جاهلا بالأول فله قيمة عمارته قائمة للشبهة ، وإن كان عالما به فليس له إلا قيمتها منقوضة بعد يمين الأول إن تركه إياها لم يكن إسلاما لها ، وأنه كان ناويا إعادتها الحط ينبغي أن يقيد بعدم علم أول عمارة الثاني وسكوته ، وإلا كان سكوته دليلا على إسلامه إياها والله أعلم .

البناني حاصل ما أشار إليه المصنف على ما يفيده نقله في توضيحه عن البيان أن العمارة تارة تكون ناشئة عن إحياء ، وتارة عن ملك ، ويحصل الاختصاص بها إذا لم تندرس في القسمين ، فإن اندرست فإن كانت عن ملك كإرث أو هبة أو شراء فالاختصاص باق اتفاقا خلافا لما يفيده ، ولو من قوله ولو اندرست ، وإن كانت عن إحياء فهل الاختصاص باق أو لا ؟ قولان ، وعلى الثاني درج المصنف ، ولكنه مقيد بطول زمن الاندراس ، هذا هو الحق في تقرير كلام المصنف ، فقوله بعمارة أي سواء كانت عن ملك أو إحياء ، وقوله : ولو اندرست لدفع التوهم فقط لا للإشارة للخلاف ، فلو عبر بأن كان أوفق باصطلاحه ، واللام في قوله لإحياء بمعنى عن ، أي إلا العمارة الناشئة عن إحياء فاندراسها يخرجها عن [ ص: 75 ] ملك محييها ، وبهذا يوافق كلامه كلام ابن الحاجب وضيح .

ابن الحاجب والاختصاص على وجوه : الأول العمارة ولو اندرست ، فإن كانت عمارة إحياء فاندرست فقولان . قال في ضيح مراده عمارة ملك لمقابلتها بقوله فإن كانت عمارة إحياء فقولان أحدهما أن اندراسها يخرجها عن ملك محييها فيجوز لغيره أن يحييها ، وهو قول ابن القاسم . والثاني : لسحنون أنها للأول وإن أعمرها غيره حكاه عنه صاحب البيان وغيره ، وحكى عنه ثالث إن كانت قريبا من العمران ، فالأول أولى بها ، وإن كانت بعيدا ، فالثاني أولى بها قال ، وقوله عندي صحيح على معنى ما في المدونة أن ما قرب لا يحيا إلا بقطعه من الإمام فكأنه صار ملكا ، وسأل ابن عبدوس سحنونا هل تشبه هذه مسألة الصيد فقال لا . الباجي والفرق أن الصيد لو ابتاعه ثم ند واستوحش كان لمن صاده ، ولا خلاف أن من اشترى أرضا فتبورت فأحياها غيره أنها لمشتريها ، ثم قال واعترض على المصنف بأن قوله أولا العمارة مستغنى عنه ; لأن مجرد الملك كاف في الاختصاص لا يفتقر لعمارة ، وأجيب بأنه لعله ذكره ليقسم العمارة . ا هـ . وكذا يقال في كلام المصنف هنا ، والله أعلم .




الخدمات العلمية