الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
إذا عرف ذلك فالكلام على هذه الحجة من مقامين كسائر الحجج المذكورة في منع كونه على العرش، فإن من يقول إنه فوق العرش. ويقول: هو مع ذلك ليس بجسم ولا متحيز ولا مركب يمنع ما ذكره من الملازمة، كما تقدم ذكره غير [ ص: 29 ] مرة، سواء فرض أن العرش يكون تحت بعض الناس أو أن السماوات تكون تحت بعض الناس أو لم يفرض من وجوه:

أحدها (أن قوله: إن الأرض إذا كانت كرة فالجهة التي هي فوق بالنسبة إلى سكان أهل المشرق، هي تحت بالنسبة إلى سكان المغرب، فلو اختص الباري بشيء من الجهات لكان في جهة التحت بالنسبة إلى بعض الناس) يقال له: كان الواجب إذا احتججت بما ذكرته من أمر الهيئة أن تتم ما يقولونه هم وما يعلمه الناس كلهم فإنه لا نزاع بينهم ولا بين أحد من بني [ ص: 30 ] آدم، أن الأرض هي تحت السماء حيث كانت، وأن السماء فوق الأرض حيث كانت. وهذا وهم متفقون مع جملة الناس على أن الجهة الشرقية سماؤها وأرضها ليست تحت الغربية ولا الجهة الغربية سماؤها وأرضها تحت الشرقية، ومتفقون على جهل من يجعل إحدى الجهتين في نفسها فوق الأخرى أو تحتها.

وذلك يتضح بما قدمناه قبل هذا من أن الجهات نوعان: جهات ثابتة لازمة لا تتحول، وجهات إضافية نسبية تتبدل وتتحول، فأما الأول وهي الجهة الثابتة اللازمة الحقيقية فهي جهتا العلو والسفل. فالسماء أبدا في الجهة العالية التي علوها ثابت لازم لا يتبدل، فكلما علت الجهة اتسعت، وكلما سفلت ضاقت. فلهذا كان الأعلى هو الأوسع، وكان الأسفل [ ص: 31 ] هو الأضيق، ولهذا قابل الله تعالى بين عليين وبين سجين في كتابه، فقال: كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين [المطففين: 18] وقال: كلا إن كتاب الفجار لفي سجين [المطففين: 7] ولم يقل في سفلين، كما لم يقل هناك في وسعين، ليبين الضيق والحرج الذي في المكان، كما بين سفوله بمقابلته بعليين، وبين أيضا سعة عليين بمقابلة سجين، فيكون قد دل على العلو والسعة التي للأبرار، وعلى السفول والضيق الذي للفجار.

وأما الجهات الست: فقد ذكرنا أنها تقال بالنسبة والإضافة إلى الحيوان وحركته، ولهذا تتبدل بتبدل حركته وأعضائه. فإذا تحرك إلى المشرق كان المشرق أمامه، والمغرب خلفه، والجنوب يمينه، والشمال شماله، وعلى هذا بنيت الكعبة لأن وجهها مستقبل مهب الصبا بين المشرق والشمال، وأركانها على الجهات الأربع، فالحجر الأسود مستقبل المشرق، واليماني مستقبل اليمن، والغربي مستقبل الغرب، والشامي مستقبل الشام إلى القطب الشمالي، وهو محاذ أرض الجزيرة [ ص: 32 ] كالرقة وحران ونحوهما؛ ولهذا قال من قال من المصنفين في دلائل القبلة كأبي العباس بن القاص وغيره: إن قبلة هذه البلاد أعدل القبل لأن سكانها يستدبرون القطب الشمالي، لا يحتاجون أن ينحرفوا عنه إلى المشرق كما يفعل أهل الشام، ولا إلى المغرب كما يفعل أهل العراق.

فالإنسان تتبدل جهاته بتبدل حركاته، مع أن الجهات في نفسها لم تختلف أصلا، ولم يصر الشرقي منها غربيا، ولا الغربي شرقيا. وكذلك الجهة التي تحاذي رأسه هي علوه والتي تحاذي رجليه هي سفله، فإذا كان رجلان في أقصى المشرق منتهى الأرض عند ساحل البحر هناك. وفي أقصى المغرب منتهى الأرض عند ساحل البحر هناك فكل منهما تكون السماء فوقه لأنها تحاذي رأسه، وتكون الأرض تحته، لأنها تحاذي [ ص: 33 ] رجليه، كما أن السماء فوق الأرض في نفسها، وليس أحد هذين تحت الآخر في نفس الأمر أصلا، بل سجين الذي هو أسفل السافلين تحتهما ولو هبط شيئان ثقيلان من عندهما لانتهى إلى أسفل سافلين وهو سجين، لم يلتق ذلك الشيئان الثقيلان، لكن لو قدر أن تخرق الأرض ويلتقيان هناك لكانت رجلا أحدهما إلى رجلي الآخر، ولو فرض أن أحدهما أخرقت له الأرض حتى يمر في جوفها ويصل إلى الآخر لكانت رجلاه تلاقي رجلي الآخر فبهذا الاعتبار يتخيل كل واحد منهما أن الآخر تحته بمحاذاته ناحية رجليه، لكن الحركة السفلية هي إلى أسفل الأرض وقعرها، ومن هناك تبقى الحركة صاعدة إلى فوق كحركة الصاعد من الأرض إلى السماء، فيكون المتحرك من أسفل الأرض وقعرها إلى ظهرها وعلوها على هذا الوجه، كهيئة المعلق برجليه إلى ناحية السماء ورأسه إلى ناحية الأرض وكهيئة النملة المتحركة تحت السقف، والسقف يحاذي رجليها فتصير بهذا الاعتبار السماء تحاذي رجليه والأرض تحاذي رأسه. فمن هنا يقال: إن السماء تحته والأرض فوقه، إذا كان [ ص: 34 ] مقلوبا منكوسا.

فيجتمع من هذا أمران:

أحدهما أن تكون حركته على خلاف الحركة التي جعلها الله في خلقه.

والثاني: أن تتبدل الجهة تبدلا إضافيا لا حقيقيا، كما تتبدل اليمين باليسار والأمام بالوراء. ومن المعلوم أن المشرق والمغرب لا يتبدلان قط باستقبالهما تارة واستدبارهما أخرى. فكيف يتبدل العلو والسفل بتنكيس الإنسان وقلبه على رأسه، والمحاذاة حينئذ للسماء برجليه والأرض برأسه، بل هذا المنكوس يعلم أن السماء فوقه والأرض تحته، ونحن لا نمنع أن هذا قد يسمى علوا وسفلا بهذا الاعتبار التقديري الإضافي، لكن هذا لا يغير الجهة الحقيقية الثابتة.

وبهذا الاعتبار سمي في هذا الحديث المروي عن أبي هريرة وأبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال فيه: " لو أدلى أحدكم بحبل لهبط على الله " فإنه قدر الإدلاء وهو ممتنع، فسماه [ ص: 35 ] هبوطا على هذا التقدير، كما لو قلبت رجلا الإنسان ورمي إلى ناحية السماء لكان قائما على السماء.

وإذا ظهر هذا علم أن الله سبحانه لا يكون في الحقيقة قط إلا عاليا.

التالي السابق


الخدمات العلمية