الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق السابع عشر والمائة بين قاعدة أخذ الجزية على التمادي على الكفر فيجوز وبين قاعدة أخذ الأعواض على التمادي على الزنا وغيره من المفاسد فإنه لا يجوز إجماعا )

وقد أورده بعض الطاعنين في الدين سؤالا في الجزية فقال شأن الشرائع دفع أعظم [ ص: 10 ] المفسدتين بإيقاع أدناهما وتفويت المصلحة الدنيا بدفع المفسدة العليا ومفسدة الكفر تربى على مصلحة المأخوذ من الجزية من أموال الكفار بل على جملة الدنيا وما فيها فضلا عن هذا النزر اليسير فلم وردت الشريعة المحمدية بذلك ولم لا حتم القتل درءا لمفسدة الكفر ؟ وجواب هذا السؤال هو سر الفرق بين القاعدتين وذلك أن قاعدة الجزية من باب التزام المفسدة الدنيا لدفع المفسدة العليا وتوقع المصلحة العليا وذلك هو شأن القواعد الشرعية بيانه أن الكافر إذا قتل انسد عليه باب الإيمان وباب مقام سعادة الجنان وتحتم عليه الكفر والخلود في النيران وغضب الديان فشرع الله تعالى الجزية رجاء أن يسلم في مستقبل الأزمان لا سيما مع اطلاعه على محاسن الإسلام والإلجاء إليه بالذل والصغار في أخذ الجزية .

فإذا أسلم لزم من إسلامه إسلام ذريته فاتصلت سلسلة الإسلام من قبله بدلا عن ذلك الكفر وإن مات على كفره ولم يسلم فنحن نتوقع إسلام ذريته المخلفين من بعده وكذلك يحصل التوقع من ذرية ذريته إلى يوم القيامة وساعة من إيمان تعدل دهرا من كفر وكذلك خلق الله تعالى آدم على وفق الحكمة وأكثر ذريته كفار وعد النبي صلى الله عليه وسلم خلقه من جملة البركات الموجبة لتعظيم يوم الجمعة فقال في تعظيم يوم الجمعة لما ساق تعظيمه والثناء عليه في الحديث الصحيح { أفضل يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه تاب عليه وفيه تقوم الساعة } فجعل خلق آدم عليه السلام من جملة فضائله لأن خلقه سبب وجود الأنبياء عليهم السلام والصالحين وأهل الطاعة والمؤمنين .

وإن كان مع كل رجل مسلم المئون من الكفار فلا عبرة بهم لأجل ذلك المسلم الواحد ولذلك جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { أن الله تعالى يقول لآدم عليه السلام ابعث بعث النار فيخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون فيبقى من كل ألف واحد والبقية كفار } فجاز أهل النار والمعاصي والفجور ومع ذلك كان ذلك الواحد تربى مصلحة إسلامه على مفسدة أولئك وأنهم كالعدم الصرف بالنسبة إلى نور الإيمان وعبادة الرحمن فتأمل ذلك فكذلك هاهنا إيمان يتوقع من الأصل أو من آحاد الذراري لا يعادله شيء من ذلك الكفر الواقع من غيره فعقد الجزية من آثار رحمة الله تعالى ومن الشرائع الواقعة على وفق الحكمة .

ولم تؤخذ الجزية من الكفار لتحصيل مصلحة تلك الدراهم المأخوذة منه بل لتوقع هذه المصلحة أو المصالح العظيمة بالتزام تلك المفسدة الحقيرة بخلاف أخذ المال على مداومة الزنا أو غيره من المفاسد فإن ذلك ترجيح للمصلحة الحقيرة التي هي الدراهم على المفسدة العظيمة [ ص: 11 ] التي هي معصية الله تعالى نعم لو عجزنا عن إزالة منكر من هذه المنكرات إلا بدفع دراهم دفعناها لمن يأكلها حراما حتى يترك ذلك المنكر العظيم كما يدفع المال في فداء الأسارى ، والكفار مخاطبون بفروع الشريعة يحرم عليهم أكل ذلك المال ليتوصل بذلك المحرم لتخليص الأسير من أيدي العدو ولذلك يعطى المحارب المال اليسير كالثوب ونحوه ليسلم صاحبه من المقاتلة معه فيموت أحدهما أو كلاهما أو يكون المأخوذ من المال على وجه التحريم والمعصية أكثر .

وأما دفع المال لغرض المداومة على المعصية ليس إلا فهذا لم يقع في الشريعة بل الشريعة تحرمه ولا تبيحه فهذه القاعدة مفسدة صرفة فلم تشرع وقاعدة الجزية مشتملة على التزام المفسدة القليلة لدفع المفسدة العظيمة وتوقع المصلحة العظيمة فشرعت فهذا هو الفرق بين القاعدتين

[ ص: 11 - 13 ]

التالي السابق


[ ص: 11 - 13 ] حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق السابع عشر والمائة بين قاعدة إن أخذ الجزية على التمادي على الكفر يجوز وبين قاعدة إن أخذ الأعواض على التمادي على الزنا وغيره من المفاسد لا يجوز إجماعا ) .

وهو أن قاعدة أخذ المال على مداومة الزنا أو غيره من المفاسد مفسدة صرفة لأنه من باب ترجيح المصلحة الحقيرة التي هي أخذ الدراهم على المفسدة العظيمة التي هي معصية الله تعالى وهو لم يقع في الشريعة بل الشريعة تحرمه ولا تبيحه وإنما الذي من الشرائع الواقعة وتبيحه القواعد الشرعية هو عكس ذلك وهو ترجيح المصلحة العظيمة التي هي إزالة منكر من المنكرات العظيمة على المفسدة الحقيرة التي هي دفع الدراهم لمن يأكلها حراما كما في دفع المال في فداء الأسارى الكفار وهم من حيث كونهم مخاطبين بفروع الشريعة يحرم عليهم أكل ذلك المال ليتوصل بذلك المحرم لتخليص الأسير من أيدي العدو .

وكما في دفع المال اليسير كالثوب ونحوه للمحارب ليسلم دفع ذلك المال من المقاتلة معه فيموت أحدهما أو كلاهما ومن ذلك أخذ الجزية فهو مصلحة صرفة لأنه من باب التزام المفسدة الدنيا التي هي الإقرار على الكفر بأخذها لدفع مفسدة العليا التي هي انسداد باب الإيمان وباب مقام سعادة الجنان على الكافر إذا قتل ليتحتم الكفر عليه والخلود في النيران وغضب الديان حينئذ ولتوقع المصلحة العليا التي هي إما رجاء الإسلام في مستقبل الأزمان من المقر على الكفر بأخذ الجزية منه سيما مع اطلاعه على محاسن الإسلام والإلجاء إليه بالذل والصغار في أخذ الجزية فيلزم من إسلامه إسلام ذريته فتتصل سلسلة الإسلام من قبله بدلا عن ذلك الكفر المقر عليه وإما رجاء إسلام ذريته المخلفين من بعده أو من ذرية [ ص: 22 ] ذريته إلى يوم القيامة وساعة من إيمان تعدل دهرا من كفر ألا ترى أن الله تعالى خلق آدم على وفق الحكمة وعد النبي صلى الله عليه وسلم خلقه في يوم الجمعة من جملة البركات الموجبة لتعظيمه فقال في الحديث الصحيح { أفضل يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه تاب عليه وفيه تقوم الساعة } لأن خلقه سبب وجود الأنبياء عليهم السلام والصالحين وأهل الطاعة والمؤمنين .

وإن كان أكثر ذريته كفارا ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن الله تعالى يقول لآدم عليه السلام ابعث بعث النار فيخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون فيبقى من كل ألف واحد والبقية كفار فجار أهل النار والمعاصي والفجور } إذ لا عبرة بكثرة الكفار لأجل ذلك المسلم الواحد لأن ذلك الواحد تربو مصلحة إسلامه على مفسدة أولئك الكفار وأنهم كالعدم الصرف بالنسبة إلى نور الإيمان وعبادة الرحمن فتأمل ذلك وبالجملة فعقد الجزية لما كانت ثمرته توقع الإيمان من الأصل أو من أحد الذراري الذي لا يعادله شيء من ذلك الكفر الواقع من غيره لا مجرد تحصيل مصلحة تلك الدراهم المأخوذة منه كان من آثار رحمة الله تعالى ومن الشرائع الواقعة على وفق الحكمة الإلهية فلذا أباحته القواعد الشرعية ولم يلتفت إلى قول بعض الطاعنين في الدين في إيراده سؤالا في الجزية إن شأن الشرائع دفع أعظم المفسدتين بإيقاع أدناها وتفويت المصلحة الدنيا بدفع المفسدة العليا ومفسدة الكفر تربوا على مصلحة المأخوذ من الجزية من أموال الكفار بل على جملة الدنيا وما فيها فضلا عن هذا النزر اليسير فلم وردت الشريعة المحمدية بذلك ولم لم تحتم القتل درءا لمفسدة الكفر ا هـ .

ولم كان أخذ المال على مداومة الزنا أو غيره من المفاسد ثمرته مجرد أخذ الدراهم الذي هو مصلحة حقيرة لا تعادل المداومة على المفسدة العظيمة التي هي معصية الله تعالى لم يقع في الشريعة بل منعته من حيث إنه مفسدة صرفة فهذا هو الفرق بين القاعدتين والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية