الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال ) الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله إملاء اعلم بأن الإقرار خبر متمثل متردد بين الصدق والكذب فكان محتملا باعتبار ظاهره والمحتمل لا يكون حجة ولكنه جعل حجة بدليل معقول وهو أنه ظهر رجحان جانب الصدق على جانب الكذب فيه ; لأنه غير متهم فيما يقر به على نفسه ففي حق الغير ربما تحمله النفس الأمارة بالسوء على الإقرار به كاذبا وربما يمنعه عن الإقرار بالصدق وفي حق نفسه النفس الأمارة [ ص: 185 ] بالسوء على الإقرار به كاذبا وربما يمنعه عن الإقرار بالصدق وفي حق نفسه النفس الأمارة بالسوء لا تحمله على الإقرار بالكذب وربما يمنعه على الإقرار بالصدق فلظهور دليل الصدق فيما يقر به على نفسه جعل إقراره حجة وإليه أشار الله تعالى في قوله { بل الإنسان على نفسه بصيرة } . قال ابن عباس رضي الله عنهما أي شاهد بالحق والدليل على أنه حجة شرعا قوله تعالى { وليملل الذي عليه الحق } فأمر من عليه الحق بالإقرار بما عليه دليل واضح على أنه حجة والنهي عن الكتمان في قوله تعالى { ولا يبخس منه شيئا } { وليتق الله ربه } دليل على أن إقراره حجة كما أن الله تعالى لما نهى عن كتمان الشهادة كان ذلك دليلا على أن الشهادة حجة في الأحكام { ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزا رضي الله عنه حين أقر على نفسه بالزنا } وقال صلى الله عليه وسلم في حديث العسف { واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها } فيكون الإقرار حجة في الحدود التي تندرئ بالشبهات دليل على أنه حجة فيما لا يندرئ بالشبهات بالطريق الأولى ثم الإقرار صحيح بالمعلوم والمجهول بعد أن يكون المعلوم ; لأنه إظهار لما عليه من الحق وقد يكون ما عليه مجهولا فيصح إظهاره بالمجهول كالمعدوم بخلاف الشهادة فإن أداء الشهادة لا تكون إلا بعد العلم بالمشهود به .

قال الله تعالى { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } وقال صلى الله عليه وسلم للشاهد { إذا رأيت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع } فمع الجهل لا حاجة إلى الشهادة بل هو ممنوع عن أدائها فأما من عليه الحق محتاج إلى إظهار ما عليه بإقراره معلوما كان عنده أو مجهولا فقد يعلم أصل الوجوب ويجهل قدر الواجب وصفته ولهذا صح إقراره بالمجهول ولأن الشهادة لا توجب حقا إلا بانضمام القضاء إليها والقاضي لا يتمكن من القضاء إلا بالمعلوم فأما الإقرار موجب بنفسه قبل اتصال القضاء به وإذا احتمل بالمجهول أمكن إزالة الجهالة بالإجبار على البيان فلهذا صح الإقرار ولهذا لا يعمل بالرجوع عن الإقرار ويعمل بالرجوع عن الشهادة قبل اتصال القضاء بها إذا عرفنا هذا فنقول رجل قال غصبت من فلان شيئا فالإقرار صحيح ويلزمه ما بينه ولا بد من تبيين أي شيء هو لأن الشيء حقيقة اسم لما هو موجود مالا كان أو غيره إلا أن لفظ الغصب دليل على المالية فيه فالغصب لا يرد إلا على ما هو مال وما ثبت بدلالة اللفظ فهو كالملفوظ كقوله اشتريت من فلان شيئا يكون إقرارا بشراء ما هو مال لأن الشراء لا يتحقق إلا فيه ولا بد من أن يبين ما لا يجري فيه التمانع بين الناس حتى لو فسره بحبة حنطة لم يقبل ذلك منه ; لأن إقراره بالغصب [ ص: 186 ] دليل على أنه كان ممنوعا منه من صاحبه حتى غلب عليه فغصبه وهذا مما يجري فيه التمانع فإذا تبين شيئا بهذه الصفة قبل بيانه ; لأن هذا بيان مقرر لأصل كلامه ، وبيان التقرير صحيح موصولا أو مفصولا فإن ساعده المقر على ما بينه أخذه وإن ادعى غيره فالقول قول المقر مع يمينه ; لأنه خرج عن موجب إقراره بما بين فإذا كذبه المقر له فيه صار رادا إقراره بنفي دعواه شيئا آخر عليه وهو لذلك منكر فالقول قوله مع يمينه

ويستوي إن بين شيئا يضمن بالغصب أو يضمن بعد أن يكون بحيث يجري فيه التمانع حتى المغصوب فالقول قوله مع يمينه وكذلك إن بين أن المغصوب دار فالقول قوله وإن كانت الدار لا يضمن بالغصب عند أبي حنيفة رحمه الله واختلف المشايخ رحمهم الله فيما إذا بين المغصوب زوجته أو ولده الصغير فمنهم من يقول بيانه مقبول ; لأنه موافق لمبهم كلامه فإن لفظ الغصب يطلق على الزوج والولد عادة والتمانع فيه يجري بين الناس أكثر مما يجري في الأموال وأكثرهم على أنه لا يقبل بيانه بهذا ; لأن حكم الغصب لا يتحقق إلا فيما هو مال فبيانه ما ليس بمال يكون إنكارا لحكم الغصب بعد إقراره بسببه وذلك غير صحيح منه وفرق بين هذا وبين الخلع فإن من خالع امرأته على ما في بيتها من شيء فإنه ليس في البيت شيء كالخلع مجازا وله أن يجعل تسمية الشيء فيه دليلا على المالية بخلاف تسمية المتاع ; لأن الخلع من أسباب الفرقة والفرقة قد تكون بغير بدل في العادة فلا يكون فيما صرح دليلا على المالية في الشيء المذكور فأما الغصب لا يطلق في العادة إلا فيما هو مال ولا يثبت حكمه شرعا إلا فيما هو مال فالتنصيص عليه دليل على المالية في الشيء المذكور والعصر قبل التخمر كان مالا فسد تقومه بالتخمر شرعا وصار المسلم ممنوعا من تموله من غير انعدام أصل المالية فيه ( ألا ترى ) أنه بالتخلل يصير مالا متقوما وهو ذلك الغير فلهذا صح بيانه ثم الخمر محل لحكم الغصب ولهذا كان غاصب الخمر من الذمي ضامنا لهذا قبل بيانه وكذلك لو أقر أنه غصب عبدا فهذه الجهالة دون الأول ; لأن جنس المقر به صار معلوما هنا ثم التوسع في الإقرار أكثر منه في الخلع ، والصلح عن دم العمد والنكاح وتسمية العبد مطلقا صحيح في هذه العقود ففي الإقرار الأول أن في هذه العقود ينصرف إلى الوسط ; لأنه عقد معاوضة فيجب النظر فيه من الجانبين وذلك بتعين الوسط الذي هو فوق الوكس ودون الشطط

والإقرار لا يقابله شيء فلا يتعين فيه الوسط بل يكون المقر فيه مقبولا إذا لم يخالف ما يلفظ به سواء بين الرديء أو المعيب فاسم العبد أولى توضيح الفرق أن الغصب فعل يستدعي [ ص: 187 ] محلا هو مفعول به ولأن يستدعي صفة السلامة فيه ومن حيث العادة أيضا ليس للغاصبين اختيار الوسط والتسليم وإنما يغصب الغاصب ما يقدر عليه فأما في عقود المعاوضات لها موجب شرعا في اقتضاء صفة السلامة وكذلك للناس عادة في إيراد عقد المعاوضة على التسليم دون المعيب فلهذا يصرف مطلق العقد فيه إلى التسليم فإن كان العبد الذي بعيبه منصوبا في يده قائما رده وإن كان هالكا فعليه قيمته ; لأن ضمان الأصل في الغصب رد العين قال صلى الله عليه وسلم { على اليد ما أخذت حتى ترد } وإنما يصار إلى القيمة عند عدم رد العين ليكون خلفا عن الضمان الأصلي وسميت قيمة لقيامها مقام العين فإن وقعت المنازعة بينهما في مقدار القيمة فالقول قول المقر لإنكاره الزيادة مع يمينه وكذلك لو أقر بغصب شاة أو بقرة أو ثوب أو عرض وكذلك لو أقر أنه غصبه دارا فالقول قوله في تعيينها سواء عينها في هذه البلدة أو في بلدة أخرى ; لأن الدار اسم لما أدير عليه الحائط وذاك لا يختلف باختلاف البلدان فكان بيانه مطابقا للفظه .

التالي السابق


الخدمات العلمية