الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

ثم إنه سبحانه ذكر هذين المثلين للمنافقين، أحدهما: المستوقد للنار. والثاني: الصيب، هذا بالنار، وهذا بالماء، وهذا التمثيل نظير التمثيل بهما في سورة الرعد، بقوله تعالى: أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله ، فإنه ذكر أيضا ما يعمله الماء والنار، وأن النار فيها إضاءة ونور وإشراق مع الحرارة، والماء هو مادة الحياة مع الرطوبة والحياة، والنور جماع الهدى، كما قال تعالى: أومن كان ميتا [ ص: 76 ] فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ، وقال: وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات .

والماء وإن كان مادة الحياة، فالنار أيضا كذلك، ولهذا فيها من الحركة والشوق والإرادة ما يستلزم الحياة، لكن الماء فيه برودة ورطوبة يحصل به الإحساس الذي لا بد فيه من لين، والنار فيها الحرارة التي توجب العمل، والإرادة التي لا بد فيها من حركة، فهذا مادة الإحساس، وهذا مادة الحركة الإرادية، والحياة مستلزمة لهذا ولهذا، فإن الحي المطلق لا يكون ... ، ولهذا يجمع الله بين حقيقة هاتين النعمتين والآيتين اللتين بهما يكمل الموجود فيما ينزله على رسله، وما خاطبت به الرسل قومها، بل أول ما يعرف به آياته أسباب الحياة والهداية، فأول ما أنزل الله على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ، فذكر الخلق والهداية عموما وخصوصا، وذكر خلق الإنسان من علق، إذ هو في هذا الطور يصير حيا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك، فيؤمر بأربع [ ص: 77 ] كلمات، فيقال: اكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح " .

فهو بعد المضغة ينفخ فيه الروح، فلو قيل: خلقه من مضغة، لكان يظن أن الروح خلقت من مضغة، بخلاف ما إذا قيل: خلق من علق، فإنه يعلم أن المخلوق منها هو المضغة، التي ينفخ فيها الروح.

وأيضا فالعلق واسطة بين النطفة وبين المضغة، وأيضا فمن يصير علقة يخلق فيميز رأسه ويداه ورجلاه، كما قال الله تعالى في الآية الأخرى: ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ، قال من فسر ذلك من السلف: المخلقة ما تم خلقها، وغير المخلقة ما أسقطها الرحم. ليبين الله لعباده مبدأ خلقهم، وأنهم خلقوا من هذه المضغة. ولهذا تكلم الفقهاء فيما تلقيه المرأة، مما يثبت به حكم النفاس، وتنقضي به العدة والاستبراء، وتصير به المرأة أم ولد، فإنه إذا كان مضغة مخلقة فلا ريب فيه، وأما إذا كان مضغة غير مخلقة أو علقة ففيه نزاع، فلما قال: خلق من علق، دل بذلك على أن تخليق البدن بتصوير الأعضاء كان من نفس العلقة، وهذا أخص من خلقه من نطفة، فإن ذلك تقدير جملته وتصويرها قبل التفصيل.

وأيضا فالعلق أول الاستحالات التي يخلق منها، فإنه قبل ذلك كان نطفة، والنطفة لا تتعين أن تكون مبدأ الإنسان بلا ريب. ولهذا يتنازع الفقهاء أنها لو ألقت نطفة، لم يثبت به شيء من أحكام الولد، لا [ ص: 78 ] نفاس، ولا عدة، ولا استبراء، ولا استيلاد، ولا غير ذلك، بخلاف العلقة، والعلقة تنازعوا فيها، لأنه يجوز أن تكون مبدأ آدمي، ويجوز أن لا تكون، ولهذا قال من قال منهم: يرجع في ذلك إلى شهادة القوابل وغيرهن.

وأيضا فالعلق دم، والدم فيه الحرارة والرطوبة، وهما سبب الحياة، ولهذا كان الدم مادة حياة الإنسان، وفيه الأرواح البدنية التي تكون فيها القوى. وقد دل هذا الكلام على أن الإنسان الذي هو جوهر جسم قائم بنفسه وأنه صورة- مصورة، مخلوق من هذه المادة التي هي جسم أيضا، وهي العلق. فبان بهذا أن الحادث بعد أن لم يكن جوهر قائم بنفسه، ليس كما يطلقه بعض المتكلمين والمتفلسفة أن الحادث إنما هو صفات في الجواهر، فإن الفرق بين الصور والأجسام، وبين الصفات والأعراض، فرق ظاهر كما قد بيناه في غير هذا الموضع.

والفلاسفة يفرقون أيضا بين الأمرين، ويقولون: الحال في المحل إن كان المحل مستغنيا عنه فهو الموضوع، وهو الجوهر، والحال فيه هو العرض، وإن كان المحل محتاجا إليه، فهو الهيولى، والحال فيه هو الصورة، ومجموعهما هو الجسم، ويقولون: إن الهيولى جوهر، والصورة جوهر، والجسم جوهر، والموضوع جوهر، بخلاف الحال في الموضوع فإنه عرض.

والجواهر عندهم خمسة : المادة، والصورة، والجسم، [ ص: 79 ] والعقل، والنفس، وإن كان الذي لا ريب فيه هو الجسم والصورة، فأما ما يقوله من المادة للجسم، ومن وجود موجود قائم بنفسه ليس بجسم، فهذا حقيقة له، كما قد بين في موضعه.

والمقصود هنا أن الله سبحانه ذكر خلق الإنسان من علق، وهو الإنسان حي، فذكر خلق الحياة، ثم ذكر التعليم مطلقا، والتعليم بالقلم، وهو الهداية التي هي النور، فذكر خلق الحي وهدايته، مبينا بذلك أنه خالقه أول ما أنزل على نبيه، وكذلك قال: سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى ، فذكر أيضا هذين النوعين. وكذلك قال موسى لفرعون: الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى .

التالي السابق


الخدمات العلمية