الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                              وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

                                                                                                                                                                                                                              جماع أبواب المغازي التي غزا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة

                                                                                                                                                                                                                              الباب الأول

                                                                                                                                                                                                                              في الإذن بالقتال ونسخ العفو عن المشركين وأهل الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              قال العلماء رضي الله عنهم : أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى أن يقرأ باسم ربه الذي خلق ، وذلك أول نبوته ، فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ ، ثم أنزل عليه : يا أيها المدثر قم فأنذر [المدثر : 1 ، 2] فبدأه بقوله : «اقرأ» . وأرسله بيا أيها المدثر ، ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين ، ثم إنذار قومه ، ثم إنذار من حولهم من العرب قاطبة ، ثم إنذار من بلغته الدعوة من الجن والإنس إلى آخر الدهر ، فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية ، ويؤمر بالكف والصبر والصفح ، ثم أذن له في الهجرة ، فلما استقر صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وأيده الله تعالى بنصره وبعباده المؤمنين ، وألف بين قلوبهم بعد العداوة والإحن التي كانت بينهم ، فمنعته أنصار الله وكتيبة الإسلام : الأوس والخزرج ، من الأسود والأحمر ، وبذلوا أنفسهم دونه ، وقدموا محبته على محبة الآباء والأبناء والأزواج ، وكان أولى بهم من أنفسهم ، عادتهم العرب واليهود .

                                                                                                                                                                                                                              روى البيهقي وغيره عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة ، وآوتهم الأنصار ، رمتهم العرب واليهود عن قوس واحدة ، وشمروا لهم عن ساق العداوة والمحاربة ، وصاحوا بهم من كل جانب حتى كان المسلمون لا يبيتون إلا في السلاح ولا يصبحون إلا فيه ، فقالوا : ترى نعيش حتى نبيت مطمئنين لا نخاف إلا الله عز وجل ، فأنزل الله تبارك وتعالى : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون [النور : 55] . [ ص: 4 ]

                                                                                                                                                                                                                              قال البيهقي : وفي مثل هذا المعنى قوله تعالى : والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون [النحل : 41 ، 42] ذكر بعض أهل التفسير أنها نزلت في المعذبين بمكة حين هاجروا إلى المدينة بعدما ظلموا ، فوعدهم الله تعالى في الدنيا حسنة ، يعني بها الرزق الواسع ، فأعطاهم ذلك . فيروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أنه كان إذا أعطى الرجل عطاءه من المهاجرين يقول : خذ بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك الله تبارك وتعالى في الدنيا ، وما ادخر لك في الآخرة أفضل . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                              وكانت اليهود والمشركون من أهل المدينة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فأمرهم الله تبارك وتعالى بالصبر والعفو والصفح ، فقال تبارك وتعالى : ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور [آل عمران : 186] أي : قطعه قطع إيجاب وإلزام ، وهو من التسمية بالمصدر ، أي : من معزومات الأمور . وقال عز وجل : ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق [البقرة : 109] أي أن محمدا رسول الله يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ، أي : الإذن بقتالهم وضرب الجزية عليهم .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو داود وابن المنذر والبيهقي عن كعب بن مالك رضي الله عنه ، قال : «كان المشركون واليهود من أهل المدينة حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أشد الأذى ، فأمرهم الله تعالى بالصبر على ذلك والعفو عنهم . وروى الشيخان وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال : «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب» يتأول في العفو ما أمره الله تعالى به حتى أذن الله تعالى فيهم ، فقتل من قتل من صناديد قريش .

                                                                                                                                                                                                                              قال العلماء : فلما قويت الشوكة واشتد الجناح أذن لهم حينئذ في القتال ولم يفرضه عليهم ، فقال تبارك وتعالى : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز [الحج : 39 ، 40] .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 5 ] أذن : رخص ، وفي قراءة بالبناء للفاعل وهو الله ، للذين يقاتلون المشركين وهم المؤمنون ، والمأذون فيه محذوف؛ لدلالته عليه . وفي قراءة بفتح التاء ، أي للذين يقاتلهم المشركون .

                                                                                                                                                                                                                              بأنهم ظلموا : بسبب أنهم ظلموا ، أي بظلم الكافرين إياهم . وإن الله على نصرهم لقدير : وعدهم بالنصر كما وعد بدفع أذى الكفار عنهم .

                                                                                                                                                                                                                              الذين أخرجوا من ديارهم -يعني مكة- بغير حق في الإخراج ، ما أخرجوا إلا أن يقولوا ربنا الله وحده . وهذا القول حق في الإخراج بغير حق . ولولا دفع -وفي قراءة : دفاع- الله الناس بعضهم -بدل بعض من الناس- ببعض ، بتسليط المؤمنين على الكافرين ، لهدمت -بالتشديد للتكثير وبالتخفيف- صوامع للرهبان ، وبيع للنصارى ، وصلوات كنائس لليهود ، وهي بالعبرانية «صلواتا» وقيل : فيه حذف مضاف ، تقديره : مواضع صلوات ، وقيل : المراد بتهديم الصلوات تعطيلها . ومساجد للمسلمين يذكر فيها ، أي في المواضع ، اسم الله كثيرا ، وتنقطع العبادات بخرابها ولينصرن الله من ينصره [الحج : 40] أي دينه؛ إن الله لقوي على خلقه ، عزيز : منيع في سلطانه وقدرته .

                                                                                                                                                                                                                              قال العلماء : ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم . قال تعالى : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا [البقرة : 190] يعني في قتالهم فتقاتلوا غير الذين يقاتلونكم؛ إن الله لا يحب المعتدين . ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة حتى يكون الدين كله لله . وقال الله عز وجل : وقاتلوا المشركين كافة [التوبة : 36] أي جميعا كما يقاتلونكم كافة وقال تعالى : كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم [البقرة : 216] وكان محرما ، ثم صار مأذونا فيه ، ثم مأمورا به لمن بدأهم بالقتال ، ثم مأمورا به لجميع المشركين ، إما فرض عين على أحد القولين ، أو فرض كفاية على المشهور .

                                                                                                                                                                                                                              روى الإمام أحمد والترمذي ، وحسنه ، والنسائي وابن ماجه وابن حبان ، عن ابن عباس . وابن أبي شيبة وعبد بن حميد ، والبيهقي ، عن مجاهد . وابن عائذ وعبد الرزاق وابن المنذر ، عن الزهري . والبيهقي عن السدي : أن أول آية نزلت في القتال قوله تعالى : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا [الحج : 39] .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي وابن حبان والدارقطني وتمام ، عن أنس ، والأئمة عن أبي هريرة ، وأبو داود الطيالسي والنسائي ، وابن ماجه ، والضياء ، عن أوس بن أوس الثقفي ، عن أبيه- قال الحافظ في الإصابة : والصواب أنه غير الذي قبله- والطبراني عن جابر ، والنسائي والبزار والطبراني عن النعمان بن بشير ، وعن ابن عباس ، وعن ابن مالك الأشجعي ، عن أبيه ، وعن أبي بكرة ، وعن سمرة ، والإمام أحمد والخمسة عن عمر ، والشيخان عن ابن [ ص: 6 ] عمر ، ومسلم والنسائي وابن حبان عن أبي هريرة ، وابن ماجه عن معاذ ، رضي الله عنهم أجمعين : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وأن يستقبلوا قبلتنا ، ويؤتوا الزكاة ، ويأكلوا ذبيحتنا ، ويصلوا صلاتنا ، فإذا فعلوا ذلك فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها ، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ، وحسابهم على الله ، قيل : وما حقها ؟ قال : زنا بعد إحصان ، أو كفر بعد إسلام ، أو قتل نفس فيقتل بها» .

                                                                                                                                                                                                                              ثم كان الكفار معه صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة ثلاثة أقسام : قسم صالحهم ووادعهم على ألا يحاربوه ولا يظاهروا عليه عدوه ، وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم ، وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة ، وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه ، بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه . ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن ، ومنه من كان يحب ظهور عدوه عليه وانتصارهم ، ومنهم من دخل معه في الظاهر وهو مع عدوه في الباطن؛ ليأمن على نفسه من الفريقين ، وهؤلاء هم المنافقون ، فعامل صلى الله عليه وسلم كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره ربه تبارك وتعالى ، فصالح يهود المدينة وكتب بينه وبينهم كتاب أمن ، وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة : بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة ، فنقض العهد الجميع ، وكان من أمرهم ما سيأتي في الغزوات ، وأمره الله سبحانه وتعالى أن يقيم لأهل العقد والصلح بعدهم ، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد ، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنبذ العهد ، وأمره أن يقاتل من نقض عهده .

                                                                                                                                                                                                                              ولما نزلت سورة «براءة» نزلت ببيان هذه الأقسام كلها ، فأمره الله تعالى أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في دين الإسلام ، وأمره بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم ، فجاهد الكفار بالسيف والسنان ، والمنافقين بالحجة واللسان ، وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم ، وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام : قسم أمره بقتالهم ، وهم الذين نقضوا عهده ولم يستقيموا له ، فحاربهم وظهر عليهم ، وقسم لهم عهد مؤقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه ، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم ، وقسم لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه ، وكان لهم عهد مطلق ، فأمره أن يؤجلهم أربعة أشهر ، فإذا انسلخت الأربعة قاتلهم ، وهي الأشهر الأربعة المذكورة في قوله تعالى : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين [ ص: 7 ] [التوبة : 5] فالحرم هنا هي أشهر التسيير ، أولها يوم الأذان وهو العاشر من ذي الحجة ، وهو يوم الحج الأكبر الذي وقع فيه التأذين بذلك ، وآخرها العاشر من ربيع الآخر ، وليست هي الأربعة المذكورة في قوله تعالى : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم [التوبة : 36] فإن تلك واحد فرد وثلاثة سرد : رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم . ولم يسير المشركين في هذه الأربعة؛ فإن هذا لا يمكن؛ لأنها غير متوالية وإنما هو أجلهم أربعة أشهر . ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم ، فقاتل الناقض لعهده ، وأجل من لا عهد له -أو له عهد مطلق- أربعة أشهر ، وأمره أن يتم للموفي بعهده عهده إلى مدته ، فأسلم هؤلاء كلهم ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم .

                                                                                                                                                                                                                              وضرب على أهل الذمة الجزية ، فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول "براءة" على ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                                                                                                              محاربين له ، وأهل عهد ، وأهل ذمة ، ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام ، فصار الكفار قسمين : أهل ذمة آمنون وأهل حرب وهم خائفون منه ، وصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمن به ، ومسالم له آمن ، وخائف محارب . وأمر في المنافقين أن يقبل منهم علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله تبارك وتعالى ، وأن يجاهدوهم بالعلم والحجة ، وأمره أن يعرض عنهم ، ويغلظ عليهم ، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم ، ونهي أن يصلي عليهم وأن يقوم على قبورهم ، وأخبر أنه إن استغفر لهم أو لم يستغفر لهم فلن يغفر الله لهم .

                                                                                                                                                                                                                              تنبيه : قال بعض الملحدين : إنما بعث صلى الله عليه وسلم بالسيف والقتل ، والجواب : أنه صلى الله عليه وسلم بعث أولا بالبراهين والمعجزات ، فأقام يدعو الناس أكثر من عشر سنين فلم يقبلوا ذلك ، وأصروا على الكفر والتكذيب ، فأمر بالقتال وهو عوض العذاب الذي عذب الله تعالى به الأمم السابقة لما كذبت رسلهم . [ ص: 8 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية