الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل الجمع

قال : " باب الجمع : قال الله تعالى وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى .

قلت : اعتقد جماعة أن المراد بالآية : سلب فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنه ، وإضافته إلى [ ص: 395 ] الرب تعالى ، وجعلوا ذلك أصلا في الجبر ، وإبطال نسبة الأفعال إلى العباد ، وتحقيق نسبتها إلى الرب وحده ، وهذا غلط منهم في فهم القرآن ، فلو صح ذلك لوجب طرده في جميع الأعمال ، فيقال : ما صليت إذ صليت ، وما صمت إذ صمت ، وما ضحيت إذ ضحيت ، ولا فعلت كل فعل إذ فعلته ، ولكن الله فعل ذلك ، فإن طردوا ذلك لزمهم في جميع أفعال العباد - طاعتهم ومعاصيهم - إذ لا فرق ، فإن خصوه بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وحده وأفعاله جميعها ، أو رميه وحده ؛ تناقضوا ، فهؤلاء لم يوفقوا لفهم ما أريد بالآية .

وبعد ، فهذه الآية نزلت في شأن رميه - صلى الله عليه وسلم - المشركين يوم بدر بقبضة من الحصباء ، فلم تدع وجه أحد منهم إلا أصابته ، ومعلوم أن تلك الرمية من البشر لا تبلغ هذا المبلغ ، فكان منه - صلى الله عليه وسلم - مبدأ الرمي ، وهو الحذف ، ومن الله سبحانه وتعالى نهايته ، وهو الإيصال ، فأضاف إليه رمي الحذف الذي هو مبدؤه ، ونفى عنه رمي الإيصال الذي هو نهايته ، ونظير هذا : قوله في الآية نفسها فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ثم قال : وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى فأخبره : أنه وحده هو الذي تفرد بقتلهم ، ولم يكن ذلك بكم أنتم ، كما تفرد بإيصال الحصى إلى أعينهم ، ولم يكن ذلك من رسوله ولكن وجه الإشارة بالآية : أنه سبحانه أقام أسبابا ظاهرة ، كدفع المشركين ، وتولى دفعهم ، وإهلاكهم بأسباب باطنة غير الأسباب التي تظهر للناس ، فكان ما حصل من الهزيمة والقتل والنصرة مضافا إليه وبه ، وهو خير الناصرين .

قال : " الجمع : ما أسقط التفرقة ، وقطع الإشارة ، وشخص عن الماء والطين ، بعد صحة التمكين ، والبراءة من التلوين ، والخلاص من شهود الثنوية ، والتنافي من إحساس الاعتلال ، والتنافي من شهود شهودها ، وهو على ثلاث درجات : جمع علم ، ثم جمع وجود ، ثم جمع عين .

قوله : " الجمع : ما أسقط التفرقة " هذا حد غير محصل للفرق بين ما يحمد وما [ ص: 396 ] يذم من الجمع والتفرقة ، فإن " الجمع " ينقسم إلى صحيح وباطل ، و " التفرقة " تنقسم إلى محمود ومذموم ، وكل منهما لا يحمد مطلقا ، ولا يذم مطلقا ، فيراد بالجمع : جمع الوجود ، وهو جمع الملاحدة القائلين بوحدة الوجود ، ويريدون بالتفرقة : الفرق بين القديم والمحدث ، وبين الخالق والمخلوق ، وأصحابه يقولون : الجمع ما أسقط هذه التفرقة ، ويقولون عن أنفسهم : إنهم أصحاب جمع الوجود ، ولهذا صرح بما ذكرنا محققو الملاحدة ، فقالوا : التفرقة اعتبار الفرق بين وجود ووجود ، فإذا زال الفرق في نظر المحقق حصل له حقيقة الجمع .

ويراد بالجمع : الجمع بين الإرادة والطلب على المراد المطلوب وحده ، وبالتفرقة : تفرقة الهمة والإرادة ، وهذا هو الجمع الصحيح ، والتفرقة المذمومة ، فحد الجمع الصحيح : ما أزال هذه التفرقة ، وأما جمع يزيل التفرقة بين الرب والعبد ، والخالق والمخلوق ، والقديم والمحدث فأبطل الباطل ، وتلك التفرقة هي الحق ، وأهل هذه التفرقة هم أهل الإسلام والإيمان والإحسان ، كما أن أهل ذلك الجمع هم أهل الإلحاد والكفر والوثنية .

ويراد بالجمع : جمع الشهود ، وبالتفرقة : ما ينافي ذلك ، فإذا زال الفرق في نظر المشاهد ، وهو مثبت للفرق ؛ كان ذلك جمعا في شهوده خاصة ، مع تحققه بالفرق .

فإذا عرف هذا ، فالجمع الصحيح : ما أسقط التفرقة الطبيعية النفسية ، وهي التفرقة المذمومة ، وأما التفرقة الأمرية الشرعية - بين المأمور والمحظور ، والمحبوب والمكروه - فلا يحمد جمع أسقطها ، بل يذم كل الذم ، وبمثل هذه المجملات دخل على أصحاب السلوك والإرادة ما دخل .

قوله " وقطع الإشارة " هو من جنس قوله " ما أسقط التفرقة " قال أهل الإلحاد : لما كانت الإشارة نسبة بين شيئين - مشير ، ومشار إليه - كانت مستلزمة للثنوية ، فإذا جاءت الوحدة جمعية ، وذهبت الثنوية ؛ انقطعت الإشارة .

وقال أهل التوحيد : إنما تنقطع الإشارة عند كمال الجمعية على الله ، فلا يبقى في صاحب هذه الجمعية موضع للإشارة ؛ لأن جمعيته على المطلوب المراد غيبته عن الإشارة إليه ، وأيضا فإن جمعيته أفنته عن نفسه وإشارته ، ففي مقام الفناء تنقطع الإشارة ؛ لأنها من أحكام البشرية .

قوله : " وشخص عن الماء والطين " ، هذا يحتمل معنيين .

[ ص: 397 ] أحدهما : أن يريد بالماء والطين بني آدم ، ونفسه من جملتهم ، أي شخص عن النظر إلى الناس والالتفات إليهم ، وتعلق القلب بهم بالكلية ، وخصهم بالذكر لأن أكثر العلائق ، وأصعبها وأشدها قطعا لصاحبها هي علائقهم ، فإذا شخص قلبه عنهم بالكلية ، فعن غيرهم ممن هو أبعد إليه منهم أولى وأحرى .

وفي ذكر الماء والطين تقرير لهذا الشخوص عنهم ، وتنبيه على تعينه ووجوبه ، فإن المخلوق من الماء والطين بشر ضعيف ، لا يملك لنفسه - ولا لمن تعلق به - جلب منفعته ، ولا دفع مضرة ، فإن الماء والطين منفعل لا فاعل ، وعاجز مهين لا قوي متين ، كما قال تعالى : فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب وأخبر : أنه خلقنا من ماء مهين فحقيق بابن الماء والطين أن يشخص عنه القلب ، لا إليه ، وأن يعول على خالقه وحده لا عليه وأن يجعل رغبته كلها فيه وفيما لديه .

والمعنى الثاني - الذي يحتمله كلامه - : أن يشخص عن أحكام الطبيعة السفلية الناشئة من الماء والطين ، وعن متعلقاتها إلى أحكام الأرواح العلوية .

ولما كان الله سبحانه وتعالى - بحكمته وعجيب صنعه - قد جعل الإنسان مركبا من جوهرين : جوهر طبيعي كثيف ، وهو الجسم ، وجوهر روحاني لطيف ، وهو الروح ، ومن شأن كل شكل أن يميل إلى شكله ، ومن طبع كل مثل أن ينجذب إلى مثله - صار الإنسان ينجذب إلى العالم الطبيعي ، بما فيه من الكثافة ، وإلى العالم الروحاني بما فيه من اللطافة ، فصار في الإنسان قوتان متضادتان إحداهما : تجذبه سفلا ، والثانية : تجذبه علوا ، فمن شخص عن طبيعة الماء والطين ، إلى محل الأرواح العلوية ، التي ليست من هذا العالم السفلي ؛ كان من أهل هذا الجمع المحمود ، الذي جمعه من متفرقات النفس والطبع .

قوله : " بعد صحة التمكين ، والبراءة من التلوين ، والخلاص من شهود الثنوية " ، معناه : أن العبد لا يمكنه أن يشخص عن الماء والطين إلا بعد صحة تمكنه في المعرفة ، وبراءته من التلوين ، فشرط الشيخ حصول التمكين له ، وانتفاء التلوين عنه ، وخلاصه من شهود الثنوية .

فالتلوين : تلونه لإجابة دواعي الطبع والنفس ، وشهود الثنوية : عبارة مجملة [ ص: 398 ] محتملة ، وقد حملها الملحد على أنه يشهد عبدا وربا ، وقديما وحديثا ، وخالقا ومخلوقا ، والتوحيد المحض : أن يتخلص من ذلك بشهوده وحدة الوجود ، ومتى شهد تعدد الوجود كان ثنويا عند الملاحدة .

وأما الموحدون : فالثنوية التي يجب التخلص منها : أن يتخذ إلهين اثنين ، فيشهد مع الله إلها آخر ، وأما كونه شهد مع الله موجودا غيره ، وهو موجده وخالقه وفاطره : فليس بثنوية ، بل هو توحيد خالص ، ولا يتم له التوحيد إلا بهذا الشهود ليصح له نفي الإلهية عنه ، وإلا فكيف ينفي الإلهية عما لا يشهده ويشهد نفيها عنه ؟

والمقصود : أن صاحب الجمع إذا شهد ربا وعبدا ، وخالقا ومخلوقات ، وآمرا وفاعلا منفذا ، ومحركا ، ومتحركا ، ووليا وعدوا : كان ذلك موجب عقد التوحيد .

وصحة التمكين هي حفظ الأصل الذي هو بقاء شهود الرسوم في مرتبتها .

وكأنه نبه بذلك على الاحتراز من القوم الذي تخطفهم لوائح شهود الجمع ، وتمكنهم ضعيف ، فينكرون صور الخلق ، حتى يقول أحدهم : أنا نور من نور ربي ، لما يغلب على أحدهم من شهود الجمع ، وعدم تمكنه في البقاء ، وهذا قد يعرض للصادق أحيانا ، فيعلم أنه غالط ، فيرجع إلى الأصل ، ويحكم العلم على الحال ، فإذا صحا علم أنه غالط مخطئ ، وفي مثل هذه الحال قال أبو يزيد : سبحاني ، وما في الجبة إلا الله ، ونحو ذلك ، فأخذ قوم هذه الشطحات فجعلوها غاية يجرون إليها ، ويعملون عليها ، فالشيخ شرط : أنه لا يثبت شهود الجمع إلا لمن تمكن في شهود طور البقاء .

قوله : " والتنافي من الإحساس بالاعتلال " .

الاعتلال عندهم : هو التفرقة في الأسباب ، والوقوف مع الربط الواقع بين المسببات وأسبابها ، وذلك عقد لا يحله إلا شهود الجمع ، ولا يخفى ما في هذه العبارة من العجم والتعقيد ، وكذلك قوله " والتنافي من شهود شهودها " ومراده : أن ينتفي عنه شهود هذه الأشياء - التي ذكرها - كلها ، وأن يفنى عن هذا الشهود ، فإنه إن لم يفن عنها كلها ، وعن شهود فنائه ، وإلا فهو معها ؛ لأنه يحس بها ، ولا يقع الإحساس إلا بما هو موجود عند صاحب الإحساس ، فإذا غاب عن شهودها ، ثم عن شهود الشهود : فقد استقر قدمه في حضرة الجمع .

وقد تقدم غير مرة أن هذا ليس بكمال ، ولا مقصود في نفسه ، ولا يعطي [ ص: 399 ] كمالا ، ولا فيه معرفة ، ولا عبودية ، ولا دعت إليه الرسل البتة ، ولا أشار إليه القرآن ، ولا وصفه أهل الطريق المتقدمون ، وغايته أن يشبه صاحبه بالغائب عن عقله وحسه وإدراكه ، وغايته : أن يكون عارضا من عوارض الطريق ليس بلازم ، فضلا عن أن يكون غاية .

ولما جعله من جعله غاية مطلوبة ، يشمر إليها السالكون ؛ دخل بسبب ذلك من الفساد على من شمر إليه ما يعلمه الراسخون في العلم من أئمة هذا الشأن ، والله المستعان ، والعبودية المطلوبة من العبد بمعزل عن ذلك ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية