الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 251 ] فصل

في التحدي

يجب أن تعلم أن من حكم المعجزات إذا ظهرت على الأنبياء أن : يدعوا فيها أنها من دلالتهم وآياتهم ؛ لأنه لا يصح بعثة النبي من غير أن يؤتى دلالة ، ويؤيد بآية ، لأن النبي لا يتميز من الكاذب بصورته ، ولا بقول نفسه ، ولا بشيء آخر ، سوى البرهان الذي يظهر عليه ، فيستدل به على صدقه .

فإذا ذكر لهم أن هذه آيتي ، وكانوا عاجزين عنها - صح له ما ادعاه .

ولو كانوا غير عاجزين عنها - لم يصح أن يكون برهانا له .

وليس يكون معجزا إلا بأن يتحداهم إلى أن يأتوا بمثله . فإذا تحداهم وبان عجزهم - صار ذلك معجزا .

وإنما احتيج في باب القرآن إلى التحدي ؛ لأن من الناس من لا يعرف كونه معجزا ، فإنما يعرف أولا إعجازه بطريق ؛ لأن الكلام المعجز لا يتميز من غيره بحروفه وصورته ، وإنما يحتاج إلى علم وطريق يتوصل به إلى معرفة كونه معجزا .

فإن كان لا يعرف بعضهم إعجازه ، فيجب أن يعرف هذا ، حتى يمكنه أن يستدل به .

ومتى رأى أهل ذلك اللسان قد عجزوا عنه بأجمعهم ، مع التحدي إليه ، والتقريع به ، والتمكين منه - صار حينئذ بمنزلة من رأى اليد البيضاء ، وانقلاب العصى ثعبانا تتلقف ما يأفكون .

وأما من كان من أهل صنعة العربية ، والتقدم في البلاغة ، ومعرفة فنون القول ، ووجوه المنطق - فإنه يعرف - حين يسمعه - عجزه عن الإتيان بمثله ، [ ص: 252 ] ويعرف أيضا أهل عصره ، ممن هو في طبقته أو يدانيه في صناعته ، عجزهم عنه ، فلا يحتاج إلى التحدي حتى يعلم به كونه معجزا .

ولو كان أهل الصنعة الذين صفتهم ما بينا لا يعرفون كونه معجزا حتى يعرفوا عجز غيرهم عنه - لم يجز أن يعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - أن القرآن معجز حتى يرى عجز قريش عنه بعد التحدي إليه ، وإذا عرف عجز قريش لم يعرف عجز سائر العرب عنه حتى ينتهي إلى التحدي إلى أقصاهم ، وحتى يعرف عجز مسيلمة الكذاب عنه ، ثم يعرف حينئذ كونه معجزا .

وهذا القول - إن قيل - أفحش ما يكون من الخطإ ! !

فيجب أن تكون منزلة أهل الصنعة في معرفة إعجاز القرآن بأنفسهم منزلة من رأى اليد البيضاء وفلق البحر ، بأن ذلك معجز .

وأما من لم يكن من أهل الصنعة ، فلا بد له من مرتبة قبل هذه المرتبة ، يعرف بها كونه معجزا ، فيساوي حينئذ أهل الصنعة ، فيكون استدلاله في تلك الحالة به على صدق من ظهر ذلك عليه على سواء ، إذا ادعاه - دلالة على نبوته وبرهانا على صدقه .

فأما من قدر أن القرآن لا يصير معجزا إلا بالتحدي إليه ، فهو كتقدير من ظن أن جميع آيات موسى وعيسى - عليهما السلام - ليست بآيات حتى التحدي إليها والحض عليها ، ثم يقع العجز عنها ، فيعلم حينئذ أنها معجزات .

وقد سلف من كلامنا في هذا المعنى ما يغني عن الإعادة .

ويبين ما ذكرناه في غير البليغ : أن الأعجمي الآن لا يعرف إعجاز القرآن إلا بأمور زائدة على الأعجمي الذي كان في ذلك الزمان مشاهدا له ؛ لأن من هو من أهل العصر يحتاج أن يعرف أولا أن العرب عجزوا عنه ، وإنما يعلم عجزهم عنه بنقل الناقلة إليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تحدى العرب إليه فعجزوا عنه ، ويحتاج في النقل إلى شروط ، وليس يصير القرآن بهذا النقل [ ص: 253 ] معجزا ، كذلك لا يصير معجزا بأن يعلم العربي الذي ليس ببليغ أنهم قد عجزوا عنه بأجمعهم ، بل هو معجز في نفسه ، وإنما طريق معرفة هذا وقوفهم على العلم بعجزهم عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية