الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الآداب الشرعية والمنح المرعية

ابن مفلح - محمد بن مفلح بن محمد المقدسي

صفحة جزء
فصل ( أسباب موانع العقاب وثمرات التوحيد والدعاء ) ( والمأثور المرفوع منه ) .

قال الشيخ تقي الدين رحمه الله في أثناء كلام له : الذنوب تزول عقوباتها بأسباب بالتوبة وبالحسنات الماحية وبالمصائب المكفرة ، لكنها من عقوبات الدنيا ، وكذلك ما يحصل في البرزخ من الشدة وكذلك ما يحصل في عرصات القيامة ، وتزول أيضا بدعاء المؤمنين كالصلاة عليه ، وشفاعة الشفيع المطاع لمن شفع فيه . [ ص: 140 ]

وسئل ما السبب في أن الفرج يأتي عند انقطاع الرجاء بالخلق ؟ وما الحيلة في صرف القلب عن التعلق بهم وتعلقه بالله عز وجل ؟ فقال سبب هذا تحقيق التوحيد : توحيد الربوبية ، وتوحيد الإلهية ، فتوحيد الربوبية أنه لا خالق إلا الله عز وجل فلا يستقل شيء سواه بإحداث أمر من الأمور ، بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، وكل ما سواه إذا قدر شيئا فلا بد له من شريك معاون وضد معروف ، فإذا طلب مما سواه إحداث أمر من الأمور طلب منهما لا يستقل به ولا يقدر وحده عليه إلى أن قال : فالراجي مخلوقا طالب بقلبه ما يريده من ذلك المخلوق وذلك المخلوق عاجز عنه .

ثم هذا من الشرك الذي لا يغفره الله عز وجل ، فمن كمال نعمته وإحسانه إلى عباده أن يمنع تحصيل مطالبهم بالشرك حتى يصرف قلوبهم إلى التوحيد ، ثم إن وحده العبد توحيد الإلهية حصلت له سعادة الدنيا والآخرة إلى أن قال فمن تمام نعمة الله على عباده المؤمنين أن ينزل بهم من الشدة والضرر ما يلجئهم إلى توحيده فيدعونه مخلصين له الدين ، ويرجونه ولا يرجون أحدا سواه ، وتتعلق قلوبهم به لا بغيره فيحصل لهم من التوكل عليه والإنابة إليه ، وحلاوة الإيمان ، وذوق طعمه ، والبراءة من الشرك ، ما هو أعظم نعمة عليهم من زوال المرض والخوف والجدب ، أو حصول اليسر ، أو زوال العسر في المعيشة .

فإن ذلك لذة بدنية ونعمة دنيوية قد يحصل منها للكافر أعظم مما يحصل للمؤمن . وأما ما يحصل لأهل التوحيد المخلصين لله والدين فأعظم من أن يعبر عنه بمقال ، أو يستحضر تفصيله بال ، ولكل مؤمن من ذلك نصيب بقدر إيمانه ، ولهذا قال بعض السلف : يا ابن آدم لقد بورك لك في حاجة أكثرت فيها من قرع باب سيدك .

وقال بعض الشيوخ : إنه ليكون لي إلى الله حاجة وأدعو فيفتح لي من لذيذ معرفته وحلاوة مناجاته ما لا أحب معه أن يعجل قضاء حاجتي خشية أن تنصرف نفسي عن ذلك لأن النفس لا تريد إلا حظها فإذا قضي انصرفت .

وفي بعض الإسرائيليات : يا ابن آدم البلاء يجمع بيني وبينك . [ ص: 141 ]

والعافية تجمع بينك وبين نفسك . وهذا المعنى كثير وهو موجود محسوس بالحس الباطن للمؤمن وما من مؤمن إلا وقد وجد من ذلك ما يعرف به ما ذكرناه ، فإن ما كان من باب الذوق والوجد لا يعرفه إلا من كان له ذوق وحس ، ولفظ الذوق وإن كان قد يظن أنه في الأصل مختص بذوق اللسان فاستعماله في الكتاب والسنة يدل على أنه أعم من ذلك مستعمل في الإحساس بالملائم والمنافي ، كما أن لفظ الإحساس عام فيما يحس بالحواس الخمس ، بل وبالباطن . وأما في اللغة فأصله الرؤية كما قال تعالى : { هل تحس منهم من أحد } .

وهذا الكلام بتمامه في آخر الكلام على دعوة ذي النون عليه وعلى نبينا وعلى سائر الأنبياء والمرسلين الصلاة والسلام { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه رواه الترمذي والنسائي في اليوم والليلة والحاكم وقال صحيح الإسناد { فإنها لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له } .

وفي الصحيحين عن ابن عباس { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب لا إله إلا الله الحليم العظيم ، لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السموات السبع والأرض رب العرش الكريم } وعن أنس { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر . قال يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث } . وعن أبي هريرة { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أهمه الأمر رفع طرفه إلى السماء فقال سبحان الله العظيم وإذا اجتهد في الدعاء قال يا حي يا قيوم } رواهما الترمذي وإسناد الثاني ضعيف .

وروى النسائي الأول من حديث ربيعة بن عامر والحاكم من حديث أبي هريرة .

وعن علي رضي الله عنه قال : { لما كان يوم بدر قاتلت شيئا من قتال ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 142 ] أنظر ما صنع فجئت فإذا هو ساجد يقول : يا حي يا قيوم : يا حي يا قيوم ثم رجعت إلى القتال ثم جئت فإذا هو ساجد يقول يا حي يا قيوم لا يزيد على ذلك ثم ذهبت إلى القتال ثم جئت فإذا هو ساجد يقول ذلك ففتح الله عليه } . وعنه قال { علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل بي كرب أن أقول لا إله إلا الله الحليم الكريم ، سبحان الله وتبارك الله رب العرش العظيم ، والحمد لله رب العالمين } رواهما النسائي والحاكم وروى ابن حبان الثاني .

وعن أبي هريرة مرفوعا { ما كربني أمر إلا تمثل لي جبريل فقال : يا محمد قل توكلت على الحي الذي لا يموت { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا } } رواه الحاكم .

وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { دعوة المكروب اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين ، وأصلح لي شأني كله ، لا إله إلا أنت } وعن أسماء بنت عميس قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم { ألا أعلمك كلمات تقوليهن عند الكرب : الله ربي لا أشرك به شيئا } وفي رواية { أنها تقال سبع مرات } . وعن أبي سعيد الخدري قال { دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة فقال يا أبا أمامة ما لي أراك في المسجد في غير وقت الصلاة ؟ فقال : هموم لزمتني وديون يا رسول الله قال : ألا أعلمك كلاما إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همك وقضى دينك ؟ قال : قلت بلى يا رسول الله قال قل إذا أصبحت وإذا أمسيت : اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، وأعوذ بك من العجز والكسل ، وأعوذ بك من الجبن والبخل ، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال . قال : فقلت ذلك فأذهب الله عز وجل همي وقضى عني ديني } . وعن ابن عباس قال : قال رسول الله { من [ ص: 143 ] لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ، ومن كل ضيق مخرجا ، ورزقه من حيث لا يحتسب } رواهن أبو داود .

وروى ابن ماجه حديث أسماء .

ورواه النسائي في اليوم والليلة .

ورواه أيضا عن عمر بن عبد العزيز مرسلا وإسناد المتصل جيد وحديث أبي سعيد رواه أبو داود عن أحمد بن عبيد الله الغداني عن غسان بن عوف عن الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد غسان ضعفه الأزدي واختلط الجريري بآخره .

وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { ما أصاب عبدا هم ولا حزن فقال اللهم إني عبدك وابن عبدك ابن أمتك ، ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحدا من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي إلا أذهب الله حزنه وهمه وأبدله مكانه فرجا } رواه ابن حبان في صحيحه وأحمد وفيه قيل يا رسول الله ألا نتعلمها ؟ قال بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها .

وروى أحمد حدثنا خلف بن الوليد ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن عكرمة بن عمار عن محمد بن عبد الله الدؤلي قال : قال عبد العزيز أخو حذيفة قال حذيفة يعني ابن اليمان { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر يصلي } . رواه أبو داود عن محمد بن عيسى عن يحيى بن زكريا وقال ابن أخي حذيفة قال بعضهم : كذا رواه شريح عن يونس عن يحيى وخالفهما إسماعيل بن عمر وخلف بن الوليد فروياه عن يحيى وقالا فيه : قال عبد العزيز أخو حذيفة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر لحذيفة رواه الحسن بن زياد الهمذاني عن ابن جريج عن عكرمة عن محمد بن عبد الله بن أبي قدامة عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر حذيفة .

ورواه ابن جرير في تفسيره من حديث ابن جرير وقال عبد العزيز بن اليمان عن حذيفة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره قال بعضهم في عبد العزيز لا يعرف ووثقه ابن حبان ومحمد تفرد عنه عكرمة . [ ص: 144 ]

وروى ابن أبي حاتم حدثنا أبي ثنا عبد الله بن زياد القطواني ثنا سيار ثنا جعفر بن سليمان سمعت ثابتا يقول { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصابت أهله خصاصة نادى أهله يا أهلاه صلوا صلوا } قال ثابت : وكانت الأنبياء صلوات الله عليهم إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة . الظاهر أنه مرسل جيد الإسناد ولهذا المعنى شاهد في الصحيحين في الكسوف

وقد قال تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلاة } .

وروى الحاكم وقال صحيح الإسناد عن أبي هريرة رضي الله عنه وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال { من قال لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم كان دواء من تسعة وتسعين داء أيسرها الهم } وفي الصحيحين { أنها كنز من كنوز الجنة } وصحح الترمذي أنها باب من أبواب الجنة .

واعلم أن القلوب تضعف وتمرض وربما ماتت بالغفلة والذنوب وترك إعماله فيما خلق له من أعمال القلوب المطلوبة شرعا وأعظم ذلك الشرك ، وتحيا وتقوى وتصح بالتوحيد ، واليقظة وإعماله فيما خلق له والضد يزول بضده وينفعل عنه عكس ما كان منفعلا عنه وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله :

رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها     وترك الذنوب حياة القلوب
وخير لنفسك عصيانها

قال تعالى : { أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها }

وفي الصحيحين أو في صحيح مسلم من حديث حذيفة { إن العبد إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء ثم إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء حتى يبقى أسود مربدا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه } فالهوى أعظم الأدواء ومخالفته أعظم الدواء وسيأتي في آخر فصول التداوي . [ ص: 145 ] في دواء العشق ما يتعلق بهذا ، وخلقت النفس في الأصل جاهلة ظالمة كما قال تعالى : { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا } .

فلجهلها تظن شفاء في اتباع هواها ، وإنما هو أعظم داء فيه تلفها ، وتضع الداء موضع الدواء والدواء موضع الداء ، فيتولد من ذلك علل وأمراض ، ثم مع ذلك تبرئ نفسها وتلوم ربها عز وجل بلسان الحال ، وقد تصرح باللسان ولا تقبل النصح لظلمها وجهلها ولهذا كان حديث ابن عباس في دعاء الكرب مشتملا على كمال الربوبية لجميع المخلوقات ، ويستلزم توحيده ، وأنه الذي لا تنبغي العبادة والخوف والرجا إلا له سبحانه وتعالى ، وفيه العظمة المطلقة وهي مستلزمة إثبات كل كمال ، وفيه الحلم مستلزم كمال رحمته وإحسانه فمعرفة القلب بذلك توجب إعماله في أعمال القلوب المطلوبة شرعا ، فيجد لذة وسرورا يدفع ما حصل وربما حصل البعض بحسب قوة ذلك وضعفه كمريض ورد عليه ما يقوي طبيعته .

وهذه الأوصاف في غاية المناسبة لتفريج ما حصل للقلب ، وكل ما كان الإنسان أشد اعتناء بذلك وأكثر ذوقا ومباشرة ظهر له من ذلك ما لم يظهر لغيره . والحياة المطلقة التامة مستلزمة لكل صفة كمال ، والقيومية مستلزمة لكل صفة فعل ، وكمالها بكمال الحياة ، فالتوسل بهاتين الصفتين يؤثر في إزالة ما يضاد الحياة ويضر بالأفعال .

وعن أسماء بنت يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين : { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم } وفاتحة آل عمران { الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم } } . [ ص: 146 ] صححه الترمذي وغيره .

ورواه أبو داود وغيره وابن ماجه ، ولأحمد : سمعته يقول { في هاتين الآيتين : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } { الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم } . اسم الله الأعظم } .

وروى أبو داود والنسائي وغيرهما وصححه ابن حبان من حديث أنس { أن رجلا دعا فقال : اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد دعا الله عز وجل باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى } .

وفي بقية الأحاديث من تحقيق التوحيد والاعتماد والتوكل والرجاء وأسرار العبودية والاستعاذة من كل شر والاستغفار من كل ذنب والتوسل بأسمائه الحسنى ما يحصل المقصود والصلاة أمرها عظيم وقد روى أحمد وابن ماجه من حديث ليث بن أبي سليم وفيه كلام عن مجاهد { عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له وقد شكا وجع بطنه قم فصل فإن في الصلاة شفاء } وروي موقوفا على أبي هريرة أنه قاله لمجاهد قال البخاري قال ابن الأصبهاني ليس له أصل أبو هريرة لم يكن فارسيا إنما مجاهد فارسي وقد روي من حديث أبي الدرداء مرفوعا ولا يصح . قاله ابن الجوزي في جامع المسانيد .

ومعلوم أن الصلاة حركات مختلفة تتحرك معها الأعضاء الظاهرة والباطنة ، وقد ذكر الأطباء أن في المشي رياضة قوة وتحليلا وأن مما يحفظ الصحة إتعاب البدن قليلا ، ويحصل للنفس بالصلاة قوة وانشراح مع ذلك فتقوى الطبيعة فيندفع الألم ، والجهاد أقوى في هذا المعنى وأولى . [ ص: 147 ]

وقد قال تعالى : { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم } .

وعن عبادة مرفوعا { جاهدوا في الله فإن الجهاد باب من أبواب الجنة عظيم ينجي الله به من الهم والغم } رواه أحمد من رواية إسماعيل بن عياش عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم الشامي وأبو بكر ضعيف عندهم .

وعن أبي هريرة مرفوعا { سافروا تصحوا ، واغزوا تستغنوا } رواه أحمد من رواية ابن لهيعة . وفي معناه الحج لأنه من سبيل الله عز وجل . كما رواه أحمد وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى : { حسبنا الله ونعم الوكيل } نافعة في ذلك

. قال تعالى { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم } . قال ابن عباس رضي الله عنهما : قالها إبراهيم حين ألقي في النار . وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا : { إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } . رواه البخاري

وفي السنن عن عطية العوفي وهو ضعيف عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته ينتظر أن يؤمر فينفخ قالوا يا رسول الله فما تأمرنا ؟ قال قولوا حسبنا الله [ ص: 148 ] ونعم الوكيل ، على الله توكلنا } رواه أحمد ورواه الترمذي وحسنه .

ورواه النسائي عن إسماعيل بن يعقوب بن إسماعيل عن محمد بن موسى بن أعين عن أبيه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا وهو إسناد جيد .

ومن ذلك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قال أحمد رضي الله عنه حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن عبد الله محمد بن عقيل عن الطفيلي بن أبي بن كعب عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { جاءت الراجفة تتبعها الرادفة ، جاء الموت بما فيه فقال رجل يا رسول الله أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك قال إذا يكفيك الله تبارك وتعالى ما أهمك من دنياك وآخرتك } حديث حسن .

ورواه الترمذي بأطول من هذا وحسنه والحاكم وقال صحيح .

ومن ذلك أن يلحظ أن انتظار الفرج من الله تعالى عبادة فينتعش بذلك ويسر به ففي الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { سلوا الله من فضله فإن الله عز وجل يحب أن يسأل } ، { وأفضل العبادة انتظار الفرج } ، واعلم أن الدواء إنما ينفع غالبا من تلقاه بالقبول وعمله باعتقاد حسن وكلما قوي الاعتقاد وحسن الظن كان أنفع .

وقد روى الترمذي وقال : غريب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ادعوا الله عز وجل وأنتم موقنون بالإجابة ، واعلموا أن الله تعالى لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه } .

وروى أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { القلوب أوعية وبعضها أوعى من بعض فإذا سألتم الله عز وجل أيها الناس فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة فإن الله تعالى لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل } وسيأتي في الدعاء قوله عليه السلام { أنا عند ظن عبدي بي ، إن ظن خيرا فله ، وإن ظن شرا فله } وفي الصحيحين أو في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام { يستجاب لأحدكم ما لم يعجل قالوا وكيف يعجل يا رسول الله ؟ قال يقول قد دعوت وقد دعوت فلم يستجب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء } .

[ ص: 149 ] فالعارف يجتهد في تحصيل أسباب الإجابة من الزمان والمكان وغير ذلك ولا يمل ولا يسأم ويجتهد في معاملته بينه وبين ربه عز وجل في غير وقت الشدة فإنه أنجح قال عليه السلام لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما { تعرف إلى الله عز وجل في الرخاء يعرفك في الشدة } رواه أحمد وغيره .

وللترمذي وقال غريب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { من سره أن يستجيب الله عز وجل له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء } .

فهذه الأمور ينظر فيها العارف ويعلم أن عدم إجابته إما لعدم بعض المقتضى أو لوجود مانع فيتهم نفسه لا غيرها وينظر في حال سيد الخلائق وأكرمهم على الله عز وجل كيف كان اجتهاده في وقعة بدر وغيرها ، ويثق بوعد ربه عز وجل في قوله :

{ ادعوني أستجب لكم } وقوله : { أجيب دعوة الداع إذا دعان } وليعلم أن كل شيء عنده بأجل مسمى ، وأن من تعاطى ذلك على خير ولا بد ، وأن من لم يجب إلى دعوته حصل له مثلها وقال غير واحد منهم الترمذي وقال حسن صحيح غريب من هذا الوجه عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله عز وجل إياها وصرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة . قال رجل من القوم إذا نكثر قال الله أكثر } ولأحمد من حديث أبي سعيد مثله وفيه { إما أن يعجلها أو يدخرها له في الآخرة ، أو يصرف عنه من السوء مثلها } والله تعالى أعلم ويأتي ما يتعلق بالدعاء في الجملة قبل آداب القراءة وله مناسبة بهذا . [ ص: 150 ]

وروى الحاكم في تاريخه عن عبد بن حميد أنه قال لرجل شكا إليه العسرة في أموره :

ألا أيها المرء     الذي في عسره أصبح
إذا اشتد بك الأمر     فلا تنس ألم نشرح

وعن علي أن مكاتبا جاءه فقال إني عجزت عن كتابتي فأعني قال ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان عليك مثل جبل صير أداه الله عز وجل عنك قال بلى قال قل { اللهم اكفني بحلالك عن حرامك ، وأغنني بفضلك عمن سواك } رواه أحمد والترمذي وقال حسن غريب .

وقال أبو الفرج : يا متشردا على مولاه لا تنعل

لا تغضبن على قوم تحبهم     فليس ينجيك من أحبابك الغضب
ولا تخاصمهم يوما وإن عتبوا     إن القضاة إذا ما خوصموا غلبوا



وقال ابن عقيل في الفنون : والله ما أعتمد على أني مؤمن بصلاتي وصومي بل أعتمد إذا رأيت قلبي في الشدائد يفزع إليه ، وشكري لما أنعم علي ، وقال قد صنتك بكل معنى عن أن تكون عبدا لعبد وأعلمتك أني أنا الخالق الرازق فتركتني وقبلت على العبيد ، كلكم تسألوني وقت جدب المطر ، وبعد الإجابة يعبد بعضكم بعضا .

{ أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار } وقال أيضا : أما تستحيي وأنت تعلم كلب الصيد يأخذ إبقاء عليك فيقبل تعلمك وتكسر عادية طبعه وتكلب نفسه عن الفريسة وهو جائع [ ص: 151 ] مضطر إليها ، حتى إذا أخذت الصيد إن شئت أطعمته وإن شئت حرمته ، ينتهي حالك معي وأنا المنعم الذي أنشأتك وغذيتك وربيتك إنني كلفتك أن تمسك نفسك عن البحث فيما يسخطني ، لم تضبط نفسك بل غلبتك على ارتكاب ما نهيت وعصيان ما أمرت ، بلغت الصناعة من هذا الحيوان الخسيس أن يأتمر إذا أمر ، وينزجر إذا زجر ، علقت الآداب بالبهيم وما تعلق بقلبك طول العمر وكمال العقل ، تنشط لزرع نواة وغرس فسيلة وتقعد منتظرا حملها ، وينع ثمرها ، وربما دفنت قبل ذلك ولو عشت كان ماذا وما قدر ما يحصل منها ؟ وأنت تسمع قولي { ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة } وقولي : { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة } هذا وأمثاله من آي القرآن لا تنشط أن تزرع عندي ما تجني ثماره النافعة على التأبيد ، هذا لأنك مستبعد ما ضمنت في الأخرى ، قوي الأمل في الدنيا ، ألم تسمع قوله تعالى { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه } وتسمع : { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } . وأنت تحدق إلى المحظورات تحديق متوسل أو متأسف كيف لا سبيل لك إليها ، وتسمع قوله تعالى { وجوه يومئذ ناضرة } . [ ص: 152 ] تهش لها كأنها فيك نزلت ، وتسمع بعدها { وجوه يومئذ باسرة } فتطمئن أنها لغيرك . ومن أين ثبت هذا الأمر ، ومن أين جاء الطمع ، الله الله هذه خدعة تحول بينك وبين التقوى .

وقال أيضا الطباع الردية أبالسة الإنسان ، والعقول والأديان ملائكة هذا الشأن . وفي خلال تعتلج ولها أخلاق تتغالب والشرائع من خارج هذا الجسم لمصالح العالم وما دام العبد في العلاج فهو طالب ، فإذا غلب العقل واستعمل الشرع فهو واصل .

وقال ابن الجوزي أيضا ينبغي للعاقل أن يعلم أنه مفلس من الوجود فكل أحد يريده لنفسه لا له من أهل وولد وصديق وخادم ، وليس معه على الحقيقة إلا الحق سبحانه وتعالى ، فإن خذله وأخذه بذنبه لم يبق له متعلق وكان الهلاك الكلي ، وإن لطف به وقربه إليه لم يضره انقطاع كل منقطع عنه ، فيجعل العاقل شغله خدمة ربه فما له على الحقيقة غيره ، وليكن أنيسه وموضع شكواه فلا تلتفت أيها المؤمن إلا إليه ، ولا تعول إلا عليه ، وإياك أن تعقد خنصرك إلا على الذي نظمها .

وقال تأملت إقدام أكثر الخلق على المعاصي فإذا سببه حب العاجل والطمع في العفو ، وإني لأعجب من الصوفية إذا مات لهم ميت كيف يعملون دعوة ويرقصون ويقولون وصل إلى الله عز وجل ، أفأمنوا أن يكون وقع في عذاب ، فهؤلاء سدوا باب الخوف وعملوا على زعمهم على المحبة والشوق وما كان العلماء هكذا .

التالي السابق


الخدمات العلمية