الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 2156 ] ( 13 ) باب في كون الرقبة في كفارة مؤمنة

الفصل الأول

3303 - عن معاوية بن الحكم - رضي الله عنه - قال : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله ! إن جارية كانت لي ترعى غنما لي فجئتها وقد فقدت شاة من الغنم ، فسألتها عنها فقالت : أكلها الذئب ; فأسفت عليها وكنت من بني آدم ، فلطمت وجهها ، وعلي رقبة أفأعتقها ؟ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أين الله ؟ ) : فقالت : في السماء فقال : ( من أنا ؟ ) : فقالت : أنت رسول الله . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أعتقها ) رواه مالك .

وفي رواية مسلم قال ، كانت لي جارية ترعى غنما لي قبل أحد والجوانية ، فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمنا ، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون ، لكن صككتها صكة ، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعظم ذلك علي . قلت : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ! أفلا أعتقها ؟ قال : ( ائتني بها ) : فأتيت بها . فقال لها : ( أين الله ؟ ) : قالت : في السماء . قال : ( من أنا ) : قالت : أنت رسول الله قال : ( أعتقها فإنها مؤمنة ) :

التالي السابق


[ 13 ] - باب في كون الرقبة في كفارة مؤمنة

يحتمل الرفع والسكون أي : باب كون الرقبة في الكفارة مؤمنة ، وأراد المصنف الاستظهار بأن الرقبة في كفارة الظهار يشترط أن تكون مؤمنة . وقال في شرح الوقاية : وجاز فيها المسلم والكافر ، وفيه خلاف الشافعي وتحقيقه في أصول الفقه في حمل المطلق على المقيد ، اهـ . فالتقييد في الحديث الآتي بالإيمان إما لمواد مخصوصة لا يجوز فيها إلا المؤمنة ككفارة القتل خطأ ، وإما بيانا للأفضل والأكمل ، والله - تعالى - أعلم بالحال .

الفصل الأول

3303 - ( عن معاوية بن الحكم ) : أي : السلمي ، كان نزل المدينة وعداده في أهل الحجاز ، روى عنه ابن كثير وعطاء بن يسار وغيرهما ، مات سنة سبع عشرة ومائة ( قال : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت يا رسول الله ! إن جارية ) : أي : أمة ( كانت لي ) : أي : مملوكة ( ترعى غنما لي ) : أي : لا لغيري ( فجئتها وقد فقدت ) : بصيغة المعلوم المتكلم ، وفي نسخة بصيغة المجهول الغائبة ( شاة ) : بالنصب على الأول ، وبالرفع على الثاني ، والجملة حالية ( من الغنم : أي : من قطيعه ، ومن تبعيضية ( فسألتها ) : أي : الجارية ( عنها ) : أي : عن الشاة ( قالت : أكلها الذئب ) : بالهمز ويبدل أو الياء لغة ( فأسفت ) : بكسر السين ( عليها ) : أي : غضبت على الجارية أو حزنت على الشاة ( وكنت من بني آدم ) : عذر لغضبه وحزنه السابق ولطمه اللاحق ( فلطمت ) : أي : ضربت ببطن الكف ( وجهها ) : فإن الإنسان مجبول على نحو ذلك ( وعلي رقبة ) : أي : إعتاق رقبة من وجه آخر غير هذا السبب ( أفأعتقها ) : أي : عنه أو عنهما ، لما روي عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من ضرب غلاما له حدا لم يأته أو لطمه فإن كفارته أن يعتقه " : كما سيجيء في الفصل الأول من باب النفقات ( قال لها ) : أي : للجارية ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( أين الله ؟ ) : وفي رواية : ( أين ربك ؟ ) : أي : أين مكان حكمه وأمره وظهور ملكه وقدرته ( قالت : في السماء ) . قال القاضي : هو على معنى الذي جاء أمره ونهيه من قبل السماء لم يرد به السؤال عن المكان ، فإنه منزه عنه كما هو منزه عن الزمان ، بل مراده - صلى الله عليه وسلم - من سؤاله إياها أن يعلم أنها موحدة أو مشركة ؟ لأن كفار العرب كانوا يعبدون الأصنام ، وكان لكل قوم منهم صنم مخصوص يكون فيما بينهم يعبدونه ويعظمونه ، ولعل سفهاءهم وجهلتهم كانوا لا يعرفون معبودا غيره ، فأراد أن يتعرف منها ما تعبد ، فلما قالت : في السماء ، وفي رواية : أشارت إلى السماء فهم أنها موحدة يريد بذلك نفي الآلهة الأرضية التي هي الأصنام ، لا إثبات السماء مكانا له ، تعالى الله عما يقول الظالمون علو كبيرا ، ولأنه لما كان مأمورا بأن يكلم الناس على قدر عقولهم ويهديهم إلى الحق على حسب فهمهم ، ووجدها تعتقد أن المستحق للعبودية إله يدبر الأمر من السماء إلى الأرض لا الآلهة التي يعبدها المشركون قنع منها بذلك ، ولم يكلفها اعتقاد ما هو صرف التوحيد حقيقة التنزيه ، وقيل : معناه أن أمره ونهيه ورحمته ووحيه جاءت من السماء فهو كقوله تعالى : ( أأمنتم من في السماء ) قيل : وقد جاء في بعض الأحاديث أن هذه الجارية كانت خرساء ، ولهذا جوز الشافعي الأخرس في العتق فقوله : ( قالت في السماء ) : بمعنى أشارت إلى السماء كما في رواية قال شارح الوقاية : وجاز الأصم أي : من يكون في أذنه وقر ، أما من لم يسمع أصلا فينبغي أن لا يجوز ; لأنه فائت جنس المنفعة . ( قال : من أنا ؟ ) : قالت : أنت رسول الله . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أعتقها ) : أمر إجازة ( رواه مالك ) .

[ ص: 2157 ] ( وفي رواية مسلم قال ) : أي : معاوية ( كانت لي جارية ترعى غنما لي قبل أحد ) : بكسر القاف وفتح الباء أي : جانبه ، وأحد بضمتين جبل معروف في المدينة ( والجوانية ) : بتشديد الواو موضع قريب أحد ( فاطلعت ) : بتشديد الطاء أي : أشرفت على الغنم ( ذات يوم ) : أي : يوما من الأيام أو نهارا ، " ذات " : زائدة ( فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمنا ) : إذا للمفاجأة ، واللام في الذئب للعهدية الذهنية نحو قوله تعالى : ( إذ هما في الغار ) ، ( وأنا رجل من بني آدم آسف ) : بهمزة ممدودة وفتح سين ، أي : أغضب ( كما يأسفون ، لكن ) : أي : وأردت أن أضربها ضربا شديدا على ما هو مقتضى الغضب لكن ( صككتها صكة ) : أي : لطمتها لطمة ( فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فعظم ) : بالتشديد والفتح ( ذلك علي ) : أي : كثر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك الأمر أو الضرب علي ، وفي نسخة بالتخفيف والضم ( قلت ) : وفي نسخة : فقلت ، ( يا رسول الله ! أفلا أعتقها ) : قال الطيبي - رحمه الله - تعالى - : فإن قلت : كيف التوفيق بين الروايتين ؟ قلت : الرواية الأولى متضمنة لسؤالين صريحا ; لأن التقدير كان علي عتق رقبة كفارة ، وقد لزمني من هذه اللطمة إعتاقها ، أفيكفيني إعتاقها للأمرين جميعا ؟ والرواية الثانية مطلقة تحتمل الأمرين ، والمطلق محمول على المقيد ، ومما يدل على أن السؤال ليس عن مجرد اللطمة سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - الجارية عن إيمانها اهـ .

والظاهر أن الإعتاق عن اللطمة مستحب ، فيندرج في ضمن الإعتاق الواجب فليس من باب تداخل الكفارة كما توهم قال : ( ائتني بها ) : الباء للتعدية أي : احضر بها لي ( فأتيته بها . فقال لها : ( أين الله ؟ ) : أي : أين المعبود المستحق الموصوف بصفات الكمال ؟ ( قالت : في السماء ) : أي : كما في الأرض والاقتصار من باب الاكتفاء . قال - تعالى - جل جلاله ( وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ) وقال الله عز وجل : ( وهو الله في السماوات وفي الأرض ) ويمكن أن يكون الاقتصار لدفع توهم الشركة في العبودية ردا على عبدة الأصنام الأرضية قال : ( من أنا ؟ ) : قالت : أنت رسول الله قال : ( أعتقها فإنها مؤمنة ) : أي : بالله وبرسوله ، وبما جاء من عندهما ، وهذا يدل على قبول الإيمان الإجمالي ونفي التكليف الاستدلالي .




الخدمات العلمية