الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ 14 ] باب اللعان

الفصل الأول

3304 - عن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قال : إن عويمرا العجلاني قال : يا رسول الله ! أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه ؟ أم كيف يفعل ؟ ! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( وقد أنزل فيك وفي صاحبتك ، فاذهب فأت بها ) . قال سهل : فتلاعنا في المسجد ، أنا مع الناس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما فرغا قال عويمر : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها ، فطلقها ثلاثا ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( انظروا فإن جاءت به أسحم ، أدعج العينين ، عظيم الأليتين ، خدلج الساقين ، فلا أحسب عويمرا إلا قد صدق عليها ، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة فلا أحسب عويمرا إلا قد كذب عليها . فجاءت به على النعت الذي نعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تصديق عويمر ، فكان بعد ينسب إلى أمه . متفق عليه .

التالي السابق


[ 14 ] - باب اللعان

في المغرب : لعنه لعنا ولاعنه ملاعنة ولعانا وتلاعنوا لعن بعضهم بعضا ، وأصله الطرد . قال النووي - رحمه الله - : إنما سمي لعانا ; لأن كلا من الزوجين يبعد عن صاحبه ويحرم النكاح بينهما على التأبيد ، واللعان عند جمهور أصحابنا يمين ، وقيل شهادة ، وقيل يمين فيها شوب شهادة ، وينبغي أن يكون بحضرة الإمام أو القاضي وجمع من المسلمين وهو أحد أنواع التغليظ ، فإنه يغلظ بالزمان والمكان والجمع . قال المحقق ابن الهمام : هو مصدر لاعن سماعي لا قياسي والقياس الملاعنة ، وكثير من النحاة يجعلون الفعال والمفاعلة مصدرا قياسيين لفاعل ، اللعن في اللغة : الطرد والإبعاد ، وفي الفقه : اسم لما يجري بين الزوجين من الشهادات بالألفاظ المعلومات ، سمي بذلك لوجود لفظ اللعن في الخامسة تسمية للكل باسم الجزء ، ولم يسم باسم من الغضب ، وهو أيضا موجود فيها ; لأنه في كلامها وذاك في كلامه ، وهو أسبق ، والسبق من أسباب الترجيح . وشرطه : قيام النكاح ، وسببه : قذفه زوجته بما يوجب الحد في الأجنبية ، وحكمه حرمتها بعد التلاعن ، وأهله : من كان أهلا للشهادة ; فإن اللعان شهادات مؤكدات بالأيمان عندنا ، وأما عند الشافعي فأيمان مؤكدات بالشهادات ، وهو الظاهر من قول مالك وأحمد ، وتمام تحقيقه في شرحه للهداية .

[ ص: 2158 ] الفصل الأول

3304 - عن سهل بن سعد الساعدي : تقدم أن اسمه كان حزنا ، فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - سهلا ( قال : إن عويمرا ) : تصغير عامر ( العجلاني ) : بفتح فسكون نسبة إلى عجلان بن زيد الأنصاري ( قال : يا رسول الله ! أرأيت ) : أي : أخبرني ، وعبر بالإبصار عن الإخبار ; لأن الرؤية سبب العلم ، وبه يحصل الإعلام فالمعنى : أعلمت فأعلمني . ( رجلا وجد ) : أي : صادف ( مع امرأته رجلا ) : أي : وجزم أنه زنى بها ( أيقتله ) : أي : أيجوز قتله ( فيقتلونه ) : بالياء المثناة من تحت أي : يقتل أهل القتيل ذلك الرجل القاتل ؟ وفي بعض نسخ المصابيح : ( فتقتلونه ) : بتاء الخطاب . قال زين العرب : الخطاب لمحمد ، صلى الله عليه وسلم ، وإن كان بلفظ الجمع ، اهـ . ويعني به تعظيما . ويمكن أن يكون الخطاب له ولأصحابه أو للمسلمين جميعا . قال النووي : اختلفوا فيمن قتل رجلا قد جزم أنه زنى بامرأته ، فقال جمهورهم : يقتل إلا أن يقيم بذلك بينة أو يعترف له ورثة القتيل ، ويكون القتيل محصنا ، والبينة أربعة من العدول من الرجال يشهدون على يقين الزنا ، أما فيما بينه وبين الله فإن كان صادقا فلا شيء عليه ( أم كيف يفعل ) : قال الطيبي - رحمه الله - : ( أم ) : يحتمل أن تكون متصلة ، يعني إذا رأى الرجل هذا المنكر والأمر الفظيع وثارت عليه الحمية ، أيقتله فتقتلونه ، أم يصبر على ذلك الشنآن والعار ؟ وأن تكون منقطعة ، فسأل أولا عن القتل مع القصاص ، ثم أضرب عنه إلى سؤاله ؛ لأن ( أم ) : المنقطعة متضمنة لـ ( بل ) : والهمز قيل لضرب الكلام السابق ، والهمزة تستأنف كلاما آخر ، والمعنى : كيف يفعل أي : أيصبر على العار أم يحدث له أمر آخر ؟ ( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وقد أنزل فيك وفي صاحبتك ) : والمنزل قوله تعالى : ( والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم ) إلى آخر الآيات . قيل : نزلت في شعبان سنة تسع من الهجرة . قال ابن الملك : ظاهره أن آية اللعان نزلت في عويمر ، وأنه أول لعان كان في الإسلام . وقال بعض العلماء : إنها نزلت في هلال بن أمية ، وأنه أول رجل لاعن في الإسلام ، فقال : معنى قوله أنزل فيك أي : في شأنك ، لأن ذلك حكم شامل لجميع الناس ، وقيل : يحتمل أنها نزلت فيهما جميعا ، فلعلهما سألا في وقتين متغايرين فنزلت فيهما ، وسبق هلال باللعان . ( فاذهب فأت بها ) . قال سهل : فتلاعنا في المسجد ، وأنا مع الناس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فما فرغا ) : أي : عن التلاعن ( قالعويمر : كذبت ) : بضم التاء على المتكلم ، كذا ضبطه ابن الهمام . ( عليها يا رسول الله إن أمسكتها ) : أي : في نكاحي ، وهو كلام مستقل ( فطلقها ثلاثا ) : كلام مبتدأ منقطع عما قبله تصديقا لقوله في أنه لا يمسكها ، وفي رواية : ( فطلقها عويمر ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) . قال ابن شهاب : فكانت الفرقة سنة المتلاعنين ، ورواه أبو داود قال : فطلقها ثلاث تطليقات ، فأنفذه رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وكان ما صنع عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنته . قال سهل : حضرت هذا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا . قال البيهقي : قال الشافعي : عويمر حين طلقها ثلاثا كان جاهلا بأن اللعان فرقة عليه ، وظن أن اللعان لا يحرمها عليه ، فأراد تحريمها بالطلاق ، واستدل بعض الشافعية بالحديث على أن جمع الطلقات الثلاث بلفظ واحد ليس بحرام ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر عليه ذلك ، ورد بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر عليه ; لأنه لم يصادف الطلاق محلا مملوكا له . وقال بعض أصحاب مالك : إنما طلقها ثلاثا بعد اللعان ; لأنه يستحب إظهار الطلاق مع أنه حصلت الفرقة بنفس اللعان .

[ ص: 2159 ] قال الطيبي - رحمه الله - : وهذا فاسد ; لأنه كيف يستحب الطلاق للأجنبية ؟ واستدل به على بعض المالكية على أن اللعان لا يوجب الفرقة ، بل يحتاج إلى طلاق ، والجمهور منهم الإمام مالك والشافعي على أن الفرقة تقع بينهما بنفس اللعان ، ويحرم عليه نكاحها على التأبيد ، لكن قال الشافعي : تحصل الفرقة بلعان الزوج وحده . قال ابن الهمام : لا نعلم له دليلا مستلزما لوقوع الفرقة بمجرد لعانه ، قيل : وينبغي على هذا أن لا تلاعن امرأة أصلا ; لأنها ليست زوجته ، وقال أبو حنيفة : لا تحصل الفرقة إلا بقضاء القاضي بعد التلاعن لما سيأتي من قوله : ( ثم فرق بينهما ) : ، واحتج غيره بأنه لا تفتقر إلى قضاء القاضي بقوله له على ما سيأتي : ( لا سبيل لك عليها ) . قلت : يمكن أن يكون هذا من قضاء القاضي . وقال ابن الهمام : هو إنكار طلب مالها منه على ما يدل عليه تمام الحديث ، وهو قوله : قال يا رسول الله مالي ؟ قال : ( لا مال لك إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها ، وإن كنت كذبت عليها فذلك أبعد لك منها ) ، ثم دل تفريقه - عليه الصلاة والسلام - على وقوع الطلاق ، ولا يعارضه ما أخرجه أبو داود في سننه ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قصة هلال بن أمية ولعانه . قال : وقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له أن ليس لها عليه قوت ولا سكنى من أجل أنهما مفترقان بغير طلاق . فإنه من قوله ، وأجيب أيضا : بأنه لو وقع الفرقة بمجرد اللعان لأنكر عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وقد يقال : ليس هذا مما يكون ترك الإنكار فيه حجة ; لأنا لم ندع فيه أنه محرم حتى يكون ترك الإنكار حجة علينا ، إنما ادعينا أنه وقع لغوا ، فالسكوت لعدم الالتفات إليه ، ويجاب بأنه يستلزم مفسدة حينئذ ; لأن السكوت يفيد تقريره ، وأنه الواقع فلو كان الواقع بوقوع الفرقة قبله كان السكوت مفضيا إلى الفاسد ; لأنه يفيد تكرير وقوعه ، والواقع أن الفرقة وقعت قبله ، فلا يجوز السكوت مع الإفضاء إلى مثل هذا ، والغرض أن بمجرد الفراغ عندنا يأمره القاضي أن يطلق ، فإن أبي طلق هو ، ويدل عليه حديث ابن عمر ، فإنه قال فيه : فأنفذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني : أمضى ذلك الطلاق ، وهو حجة على من قال : إن الطلاق الثلاث لا يقع أو يقع واحدة ، ثم هو أولى من حديث ابن عباس ، لأنه وقع إمضاؤه - عليه الصلاة والسلام - الطلاق ، وذلك إنما يكون اعتبار ذلك منه - عليه الصلاة والسلام - . وقال أبو يوسف : إذا افترق المتلاعنان فلا يجتمعان أبدا فيثبت - بينهما حرمة كحرمة الرضاع ، وبه قال الثلاثة ، وإذا كانت حرمته مؤبدة لا تكون طلاقا بل فسخا ، ويلزم على قول أبي يوسف أن لا يتوقف على تفريق القاضي ; لأن الحرمة ثابتة قبله اتفاقا .

قال ابن الهمام : وروى الدارقطني بسنده من حديث ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : المتلاعنان إذا افترقا لا يجتمعان أبدا . وقد طعن الشيخ أبو بكر الرازي في ثبوته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكن قال صاحب التنقيح : إسناده جيد ، ومفهومه بشرطه يستلزم أنهما لا يفترقان بمجرد اللعان ، فهو حجة على الشافعي على مقتضى رأيه . وأخرجه الدارقطني أيضا موقوفا على علي وابن مسعود قالا : مضت السنة . وروى عبد الرزاق ، عن عمر وابن مسعود : المتلاعنان لا يجتمعان أبدا ، ورواه ابن أبي شيبة موقوفا على عمر وابن عمر وابن مسعود . ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( انظروا ) : من النظر بمعنى الانتظار أو الفكر والاعتبار ، أي : تأملوا ( فإن جاءت به ) : أي : بالحمل أو الولد لدلالة السياق عليه كقوله - تعالى - جل جلاله ( إن ترك خيرا ) أي : الميت ( أسحم ) : أي : أسود ( أدعج العينين ) : في النهاية : الدعج : السواد في العين وغيرهما ، وقيل : الدعج شدة سواد العين في شدة بياضها ( عظيم الأليتين ) : بفتح الهمزة ( خدلج الساقين ) : بتشديد اللام المفتوحة أي : عظيمهما ، وكان الرجل الذي نسب إليه الزنى موصوفا بهذه الصفات ، وفيه جواز الاستدلال بالشبه بناء على الأمر الغالب العادي ، ولذا قال : ( فلا أحسب ) : بكسر السين وضمها أي : لا أظن ( عويمرا إلا قد صدق ) : بتخفيف الدال أي : تكلم بالصدق ( عليها ) في نسبة الزنى إليها ( وإن جاءت بها أحيمر ) : تصغير أحمر ( كأنه وحرة ) : بفتحات : دويبة حمراء تلتزق بالأرض ( فلا أحسب عويمرا إلا قد كذب ) : بالتخفيف أي : تكلم بالكذب ( عليها ) : فإن عويمرا كان أحمر ( فجاءت به على نعت الذي نعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تصديق عويمر ، فكان بعد ) : أي : بعد ذلك ( ينسب ) : أي : الولد ( إلى أمه ) : لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) . ( متفق عليه ) :

[ ص: 2160 ]



الخدمات العلمية