الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون

خسروا أنفسهم بوجوب العذاب عليهم، ولا خسران أعظم من خسران [ ص: 559 ] النفس، و"وضل" معناه: تلف ولم يجدوه حيث أملوه. و"لا جرم" لفظة مركبة من: "لا"، ومن: "جرم" بنيتا.

ومعنى لا جرم: حق. هذا مذهب سيبويه والخليل . وقال بعض النحويين: معناها: لا بد ولا شك ولا محالة وقد روي هذا عن الخليل. وقال الزجاج : "لا" رد عليهم، ولما تقدم من كل ما قبلها، و"جرم" معناه: كسب، أي كسب فعلهم أنهم في الآخرة هم الأخسرون . فموضع "أن" -على مذهب سيبويه - رفع: وموضعها على مذهب الزجاج - نصب. وقال الكسائي معناها لا صد ولا منع.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

فكأن جرم -على هذا- من معنى القطع، تقول: جرمت أي قطعت: وهي على منزع الزجاج من الكسب ومنه قول الشاعر:


جريمة ناهض في رأس نيق ... ترى لعظام ما جمعت صليبا



وجريمة القوم كاسبهم.

وأما قول الشاعر


ولقد طعنت أبا أميمة طعنة ...     جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا



[ ص: 560 ] فيحتمل الوجهين: ويختلف معنى البيت.

وفي لا جرم لغات: يقول بعض العرب: لا ذا جرم، وبعضهم: لا أن ذا جرم، وبعضهم: لا عن ذا جرم، وبعضهم: لا جر، حذفوا الميم لكثرة استعماله.

وأخبتوا قيل: معناه: خشعوا، قاله قتادة ، وقيل: أنابوا، قاله ابن عباس ، وقيل: اطمأنوا، قاله مجاهد ، وقيل: خافوا، قاله ابن عباس رضي الله عنهما أيضا، وهذه الأقوال بعضها قريب من بعض، وأصل اللفظ من الخبت، وهو البراح القفر المستوي من الأرض فكأن المخبت في القفر قد انكشف واستسلم وبقي ذا منعة، فشبه المتذلل الخاشع بذلك، وقيل: إنما اشتق منه لاستوائه وطمأنينته. وقوله: إلى ربهم قيل: هي بمعنى اللام أي أخبتوا لربهم. وقيل: المعنى جعلوا قصدهم بإخباتهم إلى ربهم، و "الفريقان" الكافرون والمؤمنون: شبه الكافر بالأعمى والأصم ، وشبه المؤمن بـ البصير والسميع فهو -على هذا- تمثيل بمثالين. وقال بعض المتأولين: التقدير كالأعمى الأصم والبصير السميع ودخلت واو العطف كما تقول: جاءني زيد العاقل والكريم، وأنت تريده بعينه فهو -على هذا- تمثيل بمثال واحد.

ومثلا نصب على التمييز. ويجوز أن يكون حالا.

التالي السابق


الخدمات العلمية