الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فصل : ( في ذكر الأنوار وفيه فوائد جليلة ) :

والله سبحانه وتعالى سمى نفسه نورا ، وجعل كتابه نورا ، ورسوله صلى الله عليه وسلم نورا ، ودينه نورا ، واحتجب عن خلقه بالنور ، وجعل دار أوليائه نورا تتلألأ ، قال الله تعالى : ( الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم ) وقد فسر : ( الله نور السماوات والأرض . . ) الآية بكونه : منور السماوات والأرض ، وهادي أهل السماوات [ ص: 45 ] والأرض ، فبنوره اهتدى أهل السماوات والأرض ، وهذا إنما هو فعله ، وإلا فالنور الذي هو من أوصافه ، قائم به ، ومنه اشتق له اسم النور الذي هو أحد الأسماء الحسنى .

والنور يضاف إليه سبحانه على أحد وجهين : إضافة صفة إلى موصوفها ، وإضافة مفعول إلى فاعله . فالأول : كقوله تعالى : ( وأشرقت الأرض بنور ربها . . ) الآية فهذا إشراقها يوم القيامة بنوره تعالى إذا جاء لفصل القضاء . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور :

( أعوذ بنور وجهك الكريم أن تضلني لا إله إلا أنت ) . وفي الأثر الآخر : ( أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ) فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الظلمات أشرقت لنور وجهه ، كما أخبر تعالى : أن الأرض تشرق يوم القيامة بنوره .

وفي معجم الطبراني والسنة له ، وكتاب عثمان الدارمي ، وغيرها ، عن ابن [ ص: 46 ] مسعود رضي الله عنه قال : ( ليس عند ربكم ليل ولا نهار ، نور السماوات والأرض من نور وجهه ) ، وهذا الذي قاله ابن مسعود رضي الله عنه أقرب إلى تفسير الآية من قول من فسرها بأنه هادي أهل السماوات والأرض ، " وأما من فسرها بأنه منور السماوات والأرض " فلا تنافي بينه وبين قول ابن مسعود ، والحق أنه نور السماوات والأرض بهذه الاعتبارات كلها وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قام فينا رسول [ ص: 47 ] الله صلى الله عليه وسلم بخمس " كلمات " فقال : ( إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل " عمل " النهار ، وعمل النهار قبل " عمل " الليل ، حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ) . وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه ، قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك ؟ قال : ( نور أنى أراه ) فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : معناه كان ثم نور ، أو حال دون رؤيته [ ص: 48 ] نور فأنى أراه . قال : ويدل عليه أن في بعض ألفاظ الصحيح " هل رأيت ربك ؟ فقال : رأيت نورا " ، وقد أعضل أمر هذا الحديث على كثير من الناس حتى صحفه بعضهم فقال : نوراني أراه ، على أنها ياء النسب ، والكلمة كلمة واحدة وهذا خطأ لفظا ومعنى ، وإنما أوجب لهم هذا الإشكال والخطأ أنهم لما اعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه وكان قوله : أنى أراه ، كالإنكار للرؤية حاروا في الحديث ورده بعضهم باضطراب لفظه وكل هذا عدول عن موجب الدليل .

وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي ، في كتاب " الرد " له ، إجماع الصحابة على أنه لم ير ربه ليلة المعراج ، وبعضهم استثنى ابن عباس من ذلك ، وشيخنا يقول : ليس ذلك بخلاف في الحقيقة . فإن ابن عباس لم يقل : رآه بعيني رأسه ، وعليه اعتمد أحمد في إحدى الروايتين حيث قال : " أنه رآه عز وجل ولم يقل بعيني رأسه ولفظ أحمد [ ص: 49 ] كلفظ ابن عباس رضي الله عنهما ويدل على صحة ما قاله شيخنا في " معنى " حديث أبي ذر رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر : حجابه النور . فهذا النور هو - والله أعلم - النور المذكور في حديث أبي ذر " رضي الله عنه " رأيت نورا .

التالي السابق


الخدمات العلمية