الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
قلت: قوله: «من الجهات الست التي للعالم» قد يستدرك عليه، كما قرره في هذا الكتاب وغيره، فإن العالم ليس له ست جهات، بل ليس له إلا جهتا العلو والسفل فقط، وإنما الجهات الست للحيوان، كالإنسان وغيره من الدواب، الذي يؤم جهة فيكون أمامها، ويخلفها فتكون خلفه وتحاذي أعلاه وأسفله، ويمينه وشماله، فلو قال: من الجهات الست، وسكت لكان أجود، لأن الجهات الست حينئذ تكون للإنسان ونحوه، أو لو قال: من الجهات الست التي للحيوان، ولكن المقصود بكلامه معروف; وهو دعواه ودعوى موافقيه النفاة; وهم الجهمية عند السلف وأهل الحديث وأتباعهم، فإن أول من أظهر هذه المقالة، المنافية للإسلام، ودعا إليها، واتبع عليها «الجهم» فمقصوده: ذكر دعواه، ودعوى هؤلاء النفاة معه; [ ص: 27 ] وجود موجود غير حال في العالم ولا مباين له.

قال «الرازي»: «ومن المخالفين من يدعي: أن فساد هذه المقدمات معلوم بالضرورة، وقالوا: لأن العلم الضروري حاصل، بأن كل موجودين، فإنه لا بد وأن يكون أحدهما حالا في الآخر، أو مباينا عنه، مختصا بجهة من الجهات الست المحيطة به. قالوا: وإثبات موجودين، على خلاف هذه الأقسام السبعة، باطل في بديهة العقل».

قلت: الذي يدعيه هؤلاء: أن كل موجودين، فإنه لا بد وأن يكون أحدهما حالا في الآخر، أو مباينا له، ويلزم من ذلك أن يكون مختصا بعين غيره، ولا يجب أن يقولوا: إنه لا بد أن يختص بجهة من الجهات الست، المحيطة به، إلا أنه يجب أن يكون لكل موجود ست جهات، وهذا ليس مما يعلم ولا يقوم [ ص: 28 ] عليه دليل شرعي ولا عقلي، وإن كان قد يظن هذا بعض الناس ظنا لا دليل عليه، بل المعلوم لكثير من الناس بالأدلة الشرعية والعقلية أن العالم ليس له ست جهات، بل جهتان العلو والسفل، وفي الجملة فمن المعلوم بالضرورة لكل أحد، إمكان وجود جسم مستدير، وأنه ليس له ست جهات، بل جهة أعلاه ومحيطه، وجهة سفله ومركزه، ومعلوم أن الموجود مع هذا الجسم، لا يقول عاقل: إنه يجب أن يكون مختصا بجهة من الجهات الست المحيطة به، إذ ليس له ست جهات، بل لا يحيط به إلا جهة واحدة، فالمباين له لا يكون مختصا إلا بجهة واحدة، لا بست جهات. فهؤلاء يقولون: إثبات موجودين على خلاف هذين القسمين يكون باطلا بالضرورة، وهو أن يكون أحدهما حالا في الآخر محايثا له أو مباينا له منفصلا عنه، سواء كان مباينته بجهة واحدة أو جهات متعددة، إذا عرف ذلك فالقول بأن هذا القول المتضمن إثبات موجودين لا متحايثين ولا متباينين باطل بالضرورة، معلوم الفساد بالفطرة، وهو قول عامة أئمة الإسلام وأهل العلم، كما صرحوا بذلك في مواضع [ ص: 29 ] لا تحصى من كلامهم، وذكروا أن هذا النفي الذي ذكره جهم، مما يعلم بفطرة الله التي فطر الناس عليها، أنه باطل محال متناقض، لوصفه لواجب الوجود بما هو ممتنع الوجود، فهم مع إقرارهم بوجوده، وصفوه بما هو نفي وتعطيل، وسلب لوجوده، وهو قول عامة أهل الفطر السليمة من جميع أصناف بني آدم من المسلمين، واليهود والنصارى، والمشركين وغيرهم، وقد ذكرنا بعض ما في ذلك من كلام الأئمة في غير هذا [ ص: 30 ] الموضع.

التالي السابق


الخدمات العلمية