الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا

                                                          القرن: الجماعة المقترنة التي تعيش في زمن واحد، والاستفهام داخل على فعل محذوف دل عليه سابق الكلام ولاحقه، والمعنى المقرب: أيعرضون ذلك الإعراض عن المعجزات التي تبين لهم الحق، ويستهزئون ذلك الاستهزاء لأهل الحق، ولم يروا بأن ينظروا نظرة تدبر وتفكر العدد الكثير من القرون الذين أهلكناهم من قبل، وكانوا أشد قوة، وآكد منهم، والاستفهام هنا إنكاري لإنكار الواقع فهو للتوبيخ؛ لأنهم فعلا أعرضوا واستهزأوا ولم يتدبروا ويتبصروا، والآية الكريمة تنبههم إلى وجوب التبصر والتدبر، وتذكرهم بما يستقبلهم إن استمروا على غيهم، وهي فوق ذلك دليل على كمال قدرته على تنفيذ إنذاره، وقد ذكر الله تعالى لأولئك الأقوام الذين أهلكهم الله تعالى في سبيل بيان العبرة:

                                                          أولا: بأنهم مكنوا في الأرض بما لم يمكن للمشركين الذين عاصروا محمدا -صلى الله عليه وسلم- فقال تعالى: مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم أي: جعلنا لهم مكانا في الأرض لم نمكن لكم مثله، أي: لم نمكنه لكم، وذلك كناية عن سعة السلطان، وقيام الصنائع، وكثرة العمران، وثبات حكمهم، واستقرار أمرهم، فأنتم معشر المشركين لم يكن لكم شيء من ذلك، وأنى يكون مكانكم بجوار مكان فرعون، وأنى يكون سعة عمرانكم بجوار سبأ في مسكنهم الذي كان فيه جنات عن يمين وشمال.

                                                          وثانيا: أن الله جعل لهم العيش رغدا، ورغد العيش كان غيثا من السماء فأرسل عليهم السماء مدرارا، والمراد من السماء هنا جهة العلو، ولذا أفردت فقال تعالت كلماته: وأرسلنا السماء عليهم مدرارا أي: أرسلنا عليهم السحب تنزل دارة الماء، ويصح أن نقول: إنه أرسل ما في السماء من السحب، أو اعتبرت السحب [ ص: 2439 ] الماطرة فإنها سماء باعتبارها في وجهة العلو، وفي التعبير بـ: "أرسل" بدل "أنزل" إشارة إلى معنى الغوث والإمداد المستمر الدائم، والعرب لم يكن مطرهم كثيرا، بل كان غيثا، يجيء الفينة بعد الفينة.

                                                          وثالثها: بالأنهار تجري من تحتهم; ولذلك قال تعالى: وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم في التعبير بـ: " جعل " معنى التحويل، أي: حولنا أمطار السماء إلى أنهار تجري من تحتهم أي: تحت سلطانهم يسيرون مجاريها كما يريدون، فكان الماء عندهم غدقا ولم يكن ذلك عند العرب، فبأي شيء يفترون ويستعلون، وماذا صنع سبحانه بهؤلاء; قال: فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين

                                                          الفاء هنا للتفصيل، والبيان بعد الإجمال، لقد أشار سبحانه إلى ما نزل بهم، وهنا يبين سبحانه أنه أهلكهم بسبب ذنوبهم، والإهلاك بسبب الذنوب له مظهران:

                                                          أحدهما: أن الذنوب ذاتها تهلك أمما، إذ تشيع فيهم الترف والغرور والفساد في الأرض، وبذلك تنحل وتضمحل، وتذهب قوتها.

                                                          المظهر الثاني: إهلاك الله تعالى الأمم عقابا على أوزارها، وإن الأمم إذا هلكت بسبب فسادها، جاء جيل يصلح أمرها، ويزيل أسباب الفساد، ويجدد المتخرب، وهو الجيل الذي ينشئه الله على آثار المفسدين، وهو غير الجيل السابق; ولذلك كان التنكير وكان الوصف بـ: " آخرين " .

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية