الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما بيان من له المطالبة بأداء الواجب في السوائم والأموال الظاهرة فالكلام فيه يقع في مواضع في بيان من له ولاية الأخذ ، وفي بيان شرائط ثبوت ولاية الآخذ ، وفي بيان القدر المأخوذ أما الأول فمال الزكاة نوعان ظاهر وهو المواشي والمال الذي يمر به التاجر على العاشر ، وباطن وهو الذهب والفضة وأموال التجارة في مواضعها أما الظاهر فللإمام ونوابه وهم المصدقون من السعاة والعشار ولاية الأخذ ، والساعي هو الذي يسعى في القبائل ليأخذ صدقة المواشي في أماكنها ، والعاشر هو الذي يأخذ الصدقة من التاجر الذي يمر عليه ، والمصدق اسم جنس والدليل على أن للإمام ولاية الأخذ في المواشي والأموال الظاهرة الكتاب والسنة والإجماع وإشارة الكتاب .

                                                                                                                                أما الكتاب فقوله تعالى { : خذ من أموالهم صدقة } والآية نزلت في الزكاة ، عليه عامة أهل التأويل ، أمر الله عز وجل نبيه بأخذ الزكاة فدل أن للإمام المطالبة بذلك والأخذ .

                                                                                                                                قال الله تعالى : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها } فقد بين الله تعالى ذلك بيانا شافيا حيث جعل للعاملين عليها حقا ، فلو لم يكن للإمام أن يطالب أرباب الأموال بصدقات الأنعام في أماكنها وكان أداؤها إلى أرباب الأموال لم يكن لذكر العاملين وجه .

                                                                                                                                وأما السنة { فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث المصدقين إلى أحياء العرب والبلدان والآفاق لأخذ الصدقات من الأنعام والمواشي في أماكنها } وعلى ذلك فعل الأئمة من بعده من الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم حتى قال الصديق رضي الله عنه لما امتنعت العرب عن أداء الزكاة : والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاربتهم عليه وظهر العمال بذلك من بعدهم إلى يومنا هذا .

                                                                                                                                وكذا المال الباطن إذا مر به التاجر على العاشر كان له أن يأخذ في الجملة ; لأنه لما سافر به وأخرجه من العمران صار ظاهرا والتحق بالسوائم ، وهذا ; لأن الإمام إنما كان له المطالبة بزكاة المواشي في أماكنها لمكان الحماية ; لأن المواشي في البراري لا تصير محفوظة إلا بحفظ السلطان وحمايته ، وهذا المعنى موجود في مال يمر به التاجر على العاشر ، فكان كالسوائم ، وعليه إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإن عمر رضي الله عنه نصب العشار وقال لهم : خذوا من المسلم ربع العشر ، ومن الذمي نصف العشر ، ومن الحربي العشر وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ولم ينقل أنه أنكر عليه واحد منهم فكان إجماعا .

                                                                                                                                وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى عماله بذلك وقال : أخبرني بهذا من سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                وأما المال الباطن الذي يكون في المصر فقد قال عامة مشايخنا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم طالب بزكاته ، وأبو بكر وعمر طالبا ، وعثمان طالب زمانا ولما كثرت أموال الناس ورأى أن في تتبعها حرجا على الأمة وفي تفتيشها ضررا بأرباب الأموال فوض الأداء إلى أربابها .

                                                                                                                                وذكر إمام الهدى الشيخ أبو منصور الماتريدي السمرقندي رحمه الله وقال : لم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث في مطالبة [ ص: 36 ] المسلمين بزكاة الورق وأموال التجارة ولكن الناس كانوا يعطون ذلك ، ومنهم من كان يحمل إلى الأئمة فيقبلون منه ذلك ، ولا يسألون أحدا عن مبلغ ماله ولا يطالبونه بذلك إلا ما كان من توجيه عمر رضي الله عنه العشار إلى الأطراف ، وكان ذلك منه عندنا والله أعلم عمن بعد داره وشق عليه أن يحمل صدقته إليه ، وقد جعل في كل طرف من الأطراف عاشر التجار أهل الحرب والذمة وأمر أن يأخذوا من تجار المسلمين ما يدفعونه إليه .

                                                                                                                                وكان ذلك من عمر تخفيفا على المسلمين إلا أن على الإمام مطالبة أرباب الأموال العين وأموال التجارة بأداء الزكاة إليهم سوى المواشي والأنعام وأن مطالبة ذلك إلى الأئمة إلا أن يأتي أحدهم إلى الإمام بشيء من ذلك فيقبله ولا يتعدى عما جرت به العادة والسنة إلى غيره .

                                                                                                                                وأما سلاطين زماننا الذين إذا أخذوا الصدقات والعشور والخراج لا يضعونها مواضعها فهل تسقط هذه الحقوق عن أربابها ؟ اختلف المشايخ فيه ذكر الفقيه أبو جعفر الهندواني أنه يسقط ذلك كله وإن كانوا لا يضعونها في أهلها ; لأن حق الأخذ لهم فيسقط عنا بأخذهم ، ثم إنهم إن لم يضعوها مواضعها فالوبال عليهم .

                                                                                                                                وقال الشيخ أبو بكر بن سعيد : إن الخراج يسقط ولا أسقط الصدقات ; لأن الخراج يصرف إلى المقاتلة وهم يصرفون إلى المقاتلة ويقاتلون العدو ألا ترى أنه لو ظهر العدو فإنهم يقاتلون ويذبون عن حريم المسلمين ؟ فأما الزكوات والصدقات فإنهم لا يضعونها في أهلها .

                                                                                                                                وقال أبو بكر الإسكاف : إن جميع ذلك يسقط ويعطي ثانيا ; لأنهم لا يضعونها مواضعها .

                                                                                                                                ولو نوى صاحب المال وقت الدفع أنه يدفع إليهم ذلك عن زكاة ماله قيل : يجوز ; لأنهم فقراء في الحقيقة ألا ترى أنهم لو أدوا ما عليهم من التبعات والمظالم صاروا فقراء ؟ .

                                                                                                                                وروي عن أبي مطيع البلخي أنه قال : تجوز الصدقة لعلي بن عيسى بن هامان وكان والي خراسان وإنما قال ذلك لما ذكرنا .

                                                                                                                                وحكي أن أميرا ببلخ سأل واحدا من الفقهاء عن كفارة يمين لزمته فأمره بالصيام فبكى الأمير وعرف أنه يقول : لو أديت ما عليك من التبعات والمظلمة لم يبق لك شيء ، وقيل : إن السلطان لو أخذ مالا من رجل بغير حق مصادرة فنوى صاحب المال وقت الدفع أن يكون ذلك عن زكاة ماله وعشر أرضه يجوز ذلك والله أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية