الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية

        ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

        [ ص: 192 - 193 ] الباب الثاني الحدود والحقوق التي لآدمي معين وفيه ثمانية فصول .

        الأول : النفوس .

        الثاني : الجراح .

        الثالث : الأعراض .

        الرابع : الفرية ونحوها .

        الخامس : الإبضاع .

        السادس : الأحوال .

        السابع : المشاورة .

        الثامن : وجوب اتخاذ الأمارة .

        [ ص: 194 - 195 ] الفصل الأول : النفوس .

        وأما الحدود والحقوق التي لآدمي معين فمنها النفوس ، قال الله تعالى : { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } .

        وقال تعالى : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ } إلى قوله : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما } وقال تعالى { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها [ ص: 196 ] فكأنما أحيا الناس جميعا }

        وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء } فالقتل ثلاثة أنواع : أحدهما العمد المحض ، وهو أن يقصد من يعلمه معصوما بما يقتل غالبا ، سواء كان يقتل بحده كالسيف ونحوه ، أو بثقله كالسندان وكوذين القصار ، أو بغير ذلك كالتحريق والتغريق والإلقاء من مكان شاهق ، والخنق ، وإمساك الخصيتين ، حتى تخرج الروح ، حتى يموت ، وسقي السموم ، ونحو ذلك في الأفعال فهذا رغم الوجه فيه القود ، وهو أن يمكن أولياء المقتول من القاتل ، فإن أحبوا قتلوا ، وإن أحبوا عفوا وإن أحبوا أخذوا الدية وليس لهم أن يقتلوا غير قاتله .

        قال الله - تعالى { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا } ، قيل في التفسير : لا يقتل غير قاتله ، [ ص: 197 ] وروي عن أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه

        قال : قال رسول الله : { من أصيب بدم أو خبل - الخبل الجراح - فهو بالخيار بين إحدى ثلاث : فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه : أن يقتل أو يعفو ، أو يأخذ الدية فمن فعل شيئا من ذلك فعاد فإن له جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا } ، رواه أهل السنن قال الترمذي حديث حسن صحيح ، فمن قتل بعد العفو أو أخذ الدية فهو أعظم جرما ممن قتل ابتداء ، حتى قال بعض العلماء : " إنه يجب قتله حدا ولا يكون أمره لأولياء المقتول " قال تعالى : { كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة ، فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون }

        [ ص: 198 ] قال العلماء : إن أولياء المقتول تغلي قلوبهم بالغيظ ، حتى يؤثروا أن يقتلوا القاتل وأولياءه ، وربما لم يرضوا بقتل القاتل ، بل يقتلون كثيرا من أصحاب القاتل كسيد القبيلة ومقدم الطائفة ، فيكون القاتل قد اعتدى في الابتداء ، وتعدى هؤلاء في الاستيفاء كما كان يفعله أهل الجاهلية الخارجون عن الشريعة في هذه الأوقات ، من الأعراب والحاضرة وغيرهم .

        وقد يستعظمون قتل القاتل لكونه عظيما أشرف من المقتول ، فيفضى ذلك إلى أولياء المقتول يقتلون من قدروا عليه من أولياء القاتل ، وربما حالف هؤلاء قوما واستعانوا بهم ، وهؤلاء قوما فيفضي إلى الفتن والعداوات العظيمة .

        وسبب ذلك خروجهم عن سنن العدل الذي هو القصاص في القتلى فكتب الله علينا القصاص وهو المساواة والمعادلة في القتلى وأخبر أن فيه حياة ، فإنه يحقن دم غير القاتل من أولياء الرجلين ، وأيضا علم من يريد القتل أنه يقتل كف عن القتل .

        وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { المؤمنون تتكافأ دماؤهم ، وهم يد على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم ألا لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده } رواه أحمد وأبو داود وغيرهما من أهل السنن فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المسلمين تتكافأ دماؤهم - أي تتساوى وتتعادل - فلا يفضل عربي على عجمي ، ولا قرشي أو هاشمي على غيره من [ ص: 199 ] المسلمين ، ولا حر أصلي على مولى عتيق ، ولا عالم أو أمير ، على أمي أو مأمور .

        وهذا متفق عليه بين المسلمين ، بخلاف ما كان عليه أهل الجاهلية وحكام اليهود فإنه كان بقرب مدينة النبي صلى الله عليه وسلم صنفان من اليهود : قريظة والنضير ، وكانت تتفضل على قريظة في الدماء ، فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وفي حد الزنا ، فإنهم كانوا قد غيروه من الرجم إلى التحميم وقالوا إن حكم نبيكم بذلك كان لكم حجة ، وإلا فأنتم قد تركتم حكم التوراة فأنزل الله تعالى : { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } إلى قوله : { فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين } إلى قوله : { فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص } .

        فبين - سبحانه وتعالى - أنه سوى بين نفوسهم ، ولم يفضل منهم نفسا على أخرى ، كما كانوا يفعلونه إلى وله : { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } إلى قوله تعالى : { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما [ ص: 200 ] لقوم يوقنون } .

        فحكم الله - سبحانه - في دماء المسلمين أنها كلها سواء ، خلاف ما عليه الجاهلية وأكثر سبب الأهواء الواقعة بين الناس في البوادي والحواضر ، إنما هي البغي ، ترك العدل فإن إحدى الطائفتين قد يصيب بعضها الأخرى دما أو مالا ، أو تعلو عليهم بالباطل ولا تنصفها ، ولا تقتصر الأخرى على استيفاء الحق ، فالواجب في كتاب الله الحكم بين الناس في الدماء والأموال وغيرها بالقسط الذي أمر الله به ومحو ما كان عليه كثير من الناس من حكم الجاهلية ، وإذا أصلح مصلح بينهما ، فليصلح بالعدل كما قال الله - تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } وينبغي أن يطلب العفو من أولياء المقتول ، فإنه أفضل لهم كما قال تعالى : { والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له } .

        قال أنس رضي الله عنه : { ما رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو } . رواه أبو داود وغيره

        [ ص: 201 ] وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ما نقصت صدقة من مال ، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله } وهذا الذي ذكرناه من التكافؤ ، هو في المسلم الحر ، مع المسلم الحر ، فأما الذمي فجمهور العلماء : على أنه ليس بكفء للمسلم ، كما أن المستأمن الذي يقدم من بلاد الكفار رسولا أو تاجرا ونحو ذلك ، ليس بكفء له وفاقا .

        ومنهم من يقول : بل هو كفء له ، وكذلك النزاع في قتل الحر بالعبد .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية