الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم

                                                          [ ص: 2453 ] إذا كان الله سبحانه وتعالى وهو الذي يملك كل من في السماوات والأرض من إنس وجن وملائكة وغير ذلك، وهو المسيطر عليها ليلا ونهارا، وهو الذي فطر السماوات والأرض، وأنشأهما على غير مثال، فإن الله سبحانه هو الحق والنصير، وهو المعبود، وإن أولئك المشركين يريدونك أن تعدل عن اتخاذ الله تعالى وليا ونصيرا، ومعاضدا، ومؤيدا، وأن تتخذ أحجارا لا تسمع ولا تبصر، ولا تضر ولا تنفع، ولذلك أمر الله تعالى نبيه أن يخاطبهم مستنكرا ما هم فيه من اتخاذهم غير الله أولياء، وجاعلا الاستنكار منه -صلى الله عليه وسلم-، والاستنكار بالنسبة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- استنكارا للوقوع؛ فهو بمعنى النفي عنه -صلى الله عليه وسلم-، أي: لا يمكن أن يقع منه -صلى الله عليه وسلم-، وبالنسبة لهم استنكار لما يقع منهم فهو توبيخ، والاستنكار لأعمالهم واقع ضمنا، في استنكار النبي -صلى الله عليه وسلم- على نفسه أن يقع منه ذلك، والنبي -صلى الله عليه وسلم- ينفي وقوعه منه، ويوبخ من عملوا ذلك.

                                                          والمعنى: قل: يا محمد لهؤلاء الذين أشركوا بالله غيره في العبادة وادعوا أن الأوثان تقربهم إلى الله تعالى زلفى: أنا لا أتخذ غير الله وليا، وقدم في الاستفهام كلمة أغير الله لأن ذلك موضع الشناعة عليهم في الاستنكار; إذ إنه موضع الغرابة أن يكون غير الله متخذا وليا، فكان ذات الاتخاذ غريبا في ذاته، والإشراك في ذاته ترك لعبادة الله وعدم اتخاذه وحده وليا ونصيرا; لأن الولاية الحق هي لله وحده، فاتخاذ أي ولي معه ترك لولاية الله تعالى، والولي يطلق بمعنى النصير، وبمعنى المعبود، وبمعنى الصديق الحميم، وهو هنا بمعنى النصير المعبود، فلا يستنصر إلا الله، ولا يعبد سواه، وقد ذكر سبحانه على لسان نبيه الكريم عملين له سبحانه يوجبان أن ينفرد وحده بالعبادة:

                                                          أحدهما: ما ذكر سبحانه وتعالى: فاطر السماوات والأرض أي: منشئهما على غير مثال سبق، ابتداء حيث لم تكونا من قبل، وقد قال مجاهد التابعي تلميذ ابن عباس: (سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: كنت لا أدري ما [ ص: 2454 ] فاطر السماوات والأرض، حتى أتاني أعرابيان يختصمان إلي في بئر، فقال أحدهما لصاحبه: أنا فطرتها، يقول: أنا ابتدأتها -أي ابتدأ- بشقها).

                                                          ونقول: إنه ليس بمعقول أن يكون ابن عباس جاهلا بالمعنى المفهوم من السياق، ولكن لعله كان لا يعلم أصلها في اللغة، وكيف كانوا يستعملونها; حتى التقى بالأعرابيين، فوضح لديه أصل الاستعمال.

                                                          وفطر السماوات والأرض يوجب أن تكون الولاية لله وحده; لأنه الخالق لهذا الوجود والذين يشركونهن معه، لا يملكن لأنفسهن ضرا ولا نفعا، فكيف نتصور ولاية لهن بجوار ولاية الله الخالق المنشئ.

                                                          الأمر الثاني: أن الله لا يحتاج، وغيره يحتاج، فهو يطعم كل من في هذا الوجود، ويمده بأسباب الحياة والنماء ولا يطعمه أحد، وهذا على قراءة: ولا يطعم بالبناء للمجهول، وهناك قراءة بالبناء للمعلوم، والمعنى فيها: أنه يطعم من يشاء بالرزق الموفور، ولا يطعم من يشاء بالتقتير عليه في الرزق.

                                                          قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين

                                                          كما أمر الله تعالى نبيه بأن يستنكر أن يتخذ غير الله وليا، وهو الذي أبدع ذلك الوجود، وكل ما فيه يحتاج إليه، وهو لا يحتاج إلى أحد، وكنى عن هذا الاحتياج بإطعام غيره إذ أشد الحاجة تكون إلى الطعام، بعد هذا أمر الله تعالى نبيه بأن يقول: إنه أمر أن يكون أول من أسلم، وفي ذلك بيان أن الإسلام مطلوب من الجميع وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أول من يؤمر بالإذعان لله تعالى والخضوع له، وفي بيان أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك مع أنه بالبداهة أول من خوطب بالإسلام، وأمر بما اشتمل عليه، كان أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك; ليكون أسوة حسنة لهم، كما قال سبحانه: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ولأن الاقتداء دعوة حسية، ولأن في الإنسان نزوعا إلى التقليد، واتباع المهتدين، والتعبير بقوله تعالى: أن أكون أول من أسلم تعبير بالحال الواقعة من النبي -صلى الله عليه وسلم-، بأن يكون في [ ص: 2455 ] حال أول من ينشئ الإسلام ويذعن لله سبحانه وتعالى، وكأنه يقول لهم: أنا منكم، وأمرت أن أكون أول من يخترق الحجزات لأذعن لله الواحد الأحد الفرد الصمد، ثم قال تعالى: ولا تكونن من المشركين أي: أنه كما أمر أن يكون أول المذعنين لأوامر الله تعالى المخلصين له، نهي أن يكون من المشركين، بأن يكون في صفوف المشركين الذين يجعلون مع الله تعالى غيره معبودا، وأن أخرج من صفوف المشركين وإن كانوا قومي وعشيرتي، وفيهم الأقربون، وهنا نثير ثلاثة أمور نقرب بها معنى النص الكريم:

                                                          أولها: كيف تعطف الجملة الإنشائية على الجملة الخبرية؛ إذ إن الأولى أمرت، والثانية: ولا تكونن من المشركين؟ وقد أجاب عن ذلك العلماء بإجابات مختلفة، والذي نراه أن الجملة الأولى ظاهرها إخبارية، ولكن لتضمنها معنى الأمر كانت في معنى الجملة الطلبية الإنشائية، فإن نسق الكلام هكذا: (كن أول من أسلم ولا تكونن من المشركين).

                                                          الثاني: لماذا كان النهي عن الشرك بعد الأمر بأن يكون أول مذعن لمطالب الإيمان بالوحدانية، والجواب عن ذلك: أن النهي هو عن أن يكون من المشركين؛ بأن يتبرأ منهم ومن إشراكهم، ويخرج من صفوفهم، ولو كانوا قومه وعشيرته القربى، وإذا خرج من صفوف أهل الكفر كان في حزب الله، وحزب الله تعالى هم المفلحون.

                                                          الثالث: لماذا كان الالتفات من الإخبار الظاهر في قوله تعالى: أمرت أن أكون أول من أسلم إلى الخطاب في قوله تعالى: ولا تكونن من المشركين ؟ والجواب عن ذلك أن الخطاب فيه توكيد معنى النهي عن الشرك، وكلتا الجملتين للخطاب كما خرجنا في الأمر الأول، والله تعالى هو وحده الذي يملك الأمر والنهي.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية