الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
فإن كان هذا هو الخلاف المحقق بين ابن فورك وأصحابه وبين ابن الهيصم وأصحابه. فإما أن يكون الصواب مع ابن فورك أو مع ابن الهيصم.

فإن كان الصواب مع ابن فورك ثبت حينئذ أنه إذا كان على العرش لم يستلزم ذلك أن يكون جسما، ولا يكون مركبا، ولا منقسما ولا غير ذلك، وإذا صح هذا بطل ما ذكره هذا المؤسس وأمثاله من أن كونه فوق العرش يستلزم التجسيم وحينئذ فيبطل جميع ما ذكره من الحجج في هذا الكتاب على إبطال كونه على العرش، وإذا أقر بأنه فوق العرش فهو أعظم المقصود، وحينئذ يكون كلامه من جنس الأشعرية الأكابر [ ص: 297 ] المتقدمين.

وإن كان الصواب مع ابن الهيصم وهو أن كونه فوق العرش يستلزم أن يكون جسما، وهذا هو الذي يقوله هذا المؤسس وأمثاله من الأشعرية المتأخرين وهو الذي يقوله المعتزلة والفلاسفة الجهمية وأمثالهم - فيكون هذا المؤسس وهؤلاء كلهم متفقون على أن الصواب في المناظرة كان لابن الهيصم دون ابن فورك.

ومعلوم أن أهل الإثبات الذين يقولون: هو على العرش ولا يتكلمون في الجسم بنفي ولا إثبات، لا ينفون هذا الكلام أيضا، وإن خالفهم بعضهم لفظا فيها ولا ينازع في ذلك نزاعا معنويا فيكون جماهير الخلائق من مثبتة الصفات ونفاتها مع ابن الهيصم.

فقد ظهر بما ذكره أن تصويب ابن فورك ومتقدمي الأشعرية يقتضي تخطئة الرازي ومتأخري الأشعرية الذين خالفوا متقدميهم في قولهم: إن الله ليس على العرش وأن تصويب ابن الهيصم وتخطئة ابن فورك هو أولى بتخطئة هؤلاء المتأخرين النفاة لكونه على العرش. وإذا كان كذلك ثبت خطأ هذا الرازي وذويه سواء كان المصيب هو ابن فورك أو هو ابن الهيصم، وثبت اتفاق الطائفتين المتقدمتين من الأشعرية [ ص: 298 ] والكرامية على خطأ هؤلاء المتأخرين من الأشعرية الموافقين للمعتزلة في نفي أن يكون الله فوق العرش وهذا هو المقصود الأكبر فيما ذكرناه.

وأيضا فهذا الرازي وذووه يقولون هم وغيرهم: إن العلم بأن كونه على العرش يستلزم أن يكون متحيزا أو أن يكون جسما علم ضروري. وإذا كان كذلك كانوا مقرين بأن الكرامية أصوب من شيوخهم المتقدمين، وأن ذلك معلوم بالاضطرار. وإذا كان كذلك ثبت أن قول الكرامية هو الصواب دون قولهم وقول شيوخهم المتقدمين، وذلك أيضا يستلزم أن يكون الله فوق العرش.

وهذا يبين أن ما تنازع فيه متقدمو الأشعرية ومتأخروهم ثبت به خطأ إحدى الطائفتين منهم، ولم يثبت خطأ الكرامية في قولهم: إن الله فوق العرش. فإنه إن كان الصواب مع متقدميهم فهم والكرامية متفقون على أن الله فوق العرش، وإن كانت الكرامية مخطئة على هذا التقدير في قولهم: هو جسم، فهذا لا يضر، وإن كان الصواب مع متأخريهم أن كونه على العرش يستلزم التجسيم، فهم والمتقدمون من الأشعرية متفقون على أن الله تعالى فوق العرش، فيكون التجسيم حينئذ لازما للطائفتين جميعا، فلا تكون إحداهما مصيبة والأخرى مخطئة، وإذا ثبت خطأ إحدى طائفتي الأشعرية تيقنا بالاتفاق أن [ ص: 299 ] الصواب مع إما مثبتو العلو، وإما الملازمون بين العلو والجسم، ولم يثبت خطأ الكرامية المنازعين لهم في قولهم: إنه على العرش لا على قول الأولين المثبتين العلو ولا على قول الآخرين الملازمين بين العلو والجسم: ظهر أن الكرامية المنازعين الأشعرية في مسألة العلو والجسم أقرب إلى الصواب منهم، فإن من ظهر خطؤه على كل تقدير أولى بالخطأ ممن لم يظهر خطؤه في المسألة الواحدة، وهي المقصودة الكبرى على التقديرين جميعا - وخطؤه في المسألة الأخرى، وهي مسألة الجسم إنما يظهر على إحدى التقديرين فقط، وهذا بين ظاهر.

فإن الأشعرية قد ثبت لزوم الخطأ لهم بالضرورة: إما لأوليهم وإما لآخريهم إذا كان النزاع معنويا تضادا كما تقدم.

التالي السابق


الخدمات العلمية