الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 273 ] ( وإذ قلتم ياموسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون )

                          هذا ضرب آخر مما ذكر الله - تعالى - به بني إسرائيل في سياق دعوتهم إلى الإسلام .

                          قال صاحب الكشاف . كانوا قوما فلاحة فنزعوا إلى عكرهم ، فأجمعوا ما كانوا فيه من النعمة وطلبت أنفسهم الشقاء ا هـ . وقال الأستاذ الإمام في تفسيره ونقده ورده ما نصه : فلاحة بتشديد اللام جمع فلاح بمعنى الزراع ، وعكرهم بكسر العين أصلهم ، وأجم الطعام من باب ضرب وعلم كرهه من المداومة عليه . وهو بيان لما بعثهم على أن يسألوا موسى أن يدعو ربه ليخرج لهم تلك الأشياء التي طلبوها ، والسبب في جهرهم بذلك وثورتهم عليه ، كأنه يقول : إن الحامل لهم على ذلك هو تمكن العادة من نفوسهم ، فلما خرجوا منها وجاءهم ما لم يكونوا يألفون نزعوا إلى ما كانوا قد عودوه من قبل . ولو كان الأمر كما قال لكان في ذلك التماس عذر لهم ، ولما عد الله هذا القول في خطاياهم ، بل إن السآمة من تناول طعام واحد قد يكون من لوازم الطباع البشرية إلا ما شذ منها لعادة أو ضرورة ، ولا يعد ما هو من منازع الطباع جرما إذا لم يسقط ذلك في محظور . وسياق الآيات قبلها وما يلحق بعد ذلك من قوله - تعالى - : ( وإذ أخذنا ميثاقكم ) ( 2 : 63 ) . . . إلخ ، كل ذلك يدل على أن ما عدد من أفاعيلهم مع تضافر الآيات بين أيديهم وتوارد نعم الله عليهم كله من خطاياهم . ومن ذلك قوله - تعالى - : ( وإذ قلتم ياموسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها ) ويؤكد ذلك إيراد تلك العقوبة الشديدة من ضرب الذلة والمسكنة واستحقاق غضب الله - تعالى - عقب مقالهم هذا .

                          والذي يقع عليه الفهم من الآية أن النزق قد استولى على طباعهم وملك البطر أهواءهم حتى كانوا يستخفون بذلك الأمر العظيم الذي هيأهم الله له من التمكن في الأرض الموعودة ، والخروج من الخسف الذي كانوا فيه . ومع كثرة ما شاهدوا من آيات الله القائمة على صدق [ ص: 274 ] وعده لهم ، لم تستيقنه أنفسهم ، بل كانوا على ريب منه ، وكانوا يظنون أن موسى - عليه السلام - خدعهم بإخراجهم من مصر وجاء بهم في البرية ليهلكهم ؛ فلذلك دأبوا على إعناته والإكثار من الطلب فيما يستطاع وما لا يستطاع ، حتى ييأس منهم فيرتد بهم إلى مصر حيث ألفوا الذلة ، ولهم مطمع في العيش وأمل في الخلاص من الهلكة ، مما ذكره الله عنهم في هذه الآية على حد قولهم ( لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) ويرشد إلى ما فيه من الإعنات قولهم : ( لن نصبر على طعام واحد ) ، فقد عبر عن مسألتهم بما فيه حرف النفي الذي يأتي لسلب الفعل في مستقبل الزمان مع تأكيده ، فكأنهم قالوا : اعلم أنه لم يبق لك أمل في بقائنا معك على هذه الحالة من التزام طعام واحد ، فإن كانت لك منزلة عند الله كما تزعم فادعه يخرج لنا ما يمكن معه أن نبقى معك ؛ إلى أن يتم الوعد الذي وعدك ووعدتنا - وهم يعلمون أنهم كانوا في برية غير منبتة ، وربما لم يكن قولهم هذا عن سآمة ولا أجم من وحدة الطعام ، ولكنه نزق وبطر كما بينا ، وطلب للخلاص مما يخشون على أنفسهم . ويؤيد ذلك ما هو معروف في أخبارهم . ووصفوا الطعام بالواحد مع أنه نوعان - المن والسلوى - لأنهما طعام كل يوم ، والعرب تقول لمن يأكل كل يوم عدة ألوان لا تتغير : إنه يأكل من طعام واحد ، كأنهم ينظرون إلى أن مجموع الألوان هي غذاؤه الذي لا يتغير ، فهي غذاء واحد ، فإذا تغيرت الألوان تغير نوع الغذاء فكان طعاما متعددا .

                          والبقل من النبات : ما ليس بشجر دق ولا جل كما ذكره ابن سيده . وقال أبو حنيفة : ما ينبت في بزره ولا ينبت في أرومة ثابتة . وفرق ما بين البقل ودق الشجر أن البقل إذا رعي لم يبق له ساق ، والشجر تبقى له سوق وإن دقت . وأرادوا من البقل ما يطعمه الإنسان من أطايب الخضر كالكرفس والنعناع ونحوهما مما يغري بالقضم ، ويعين على الهضم ، والقثاء : هي أخت الخيار ، تسميها العامة " القتة " والعدس والبصل معروفان ، والفوم هو : الحنطة .

                          وقال الكسائي وجماعة هو : الثوم . أبدلت الثاء فاء كما في جدث وجدف . وطلبهم للحنطة هو طلبهم للخبز الذي يصنع منها . ( قال ) موسى - عليه السلام - تقريعا لهم على أشرهم وإنكارا لتبرمهم : ( أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ) ؟ أي أتطلبون هذه الأنواع الخسيسة بدل ما هو خير منها وهو المن والسلوى ؟ والمن فيه الحلاوة التي تألفها أغلب الطباع البشرية ، والسلوى من أطيب لحوم الطير ، وفي مجموعها غذاء تقوم به البنية ، وليس فيما طلبوه ما يساويهما لذة وتغذية .

                          أقول : والأدنى في اللغة الأقرب ، واستعير للأخس والأدون ، كما استعير البعد للرفعة ، والاستبدال طلب شيء بدلا من آخر ، والباء تدخل المبدل منه المراد تركه . ثم قال : ( اهبطوا مصرا ) من الأمصار ( فإن لكم ما سألتم ) أي فإنكم إن هبطتموه ونزلتموه وجدتم فيه ما سألتم .

                          [ ص: 275 ] أما هذه الأرض التي قضى الله أن تقيموا فيها إلى أجل محدود ، فليس من شأنها أن تنبت هذه البقول ، وأن الله - جل شأنه - لم يقض عليكم بالتيه في هذه البرية إلا لجبنكم وضعف عزائمكم عن مغالبة من دونكم من أهل الأمصار ، فلو صح ما تزعمون من كراهتكم للطعام الواحد ، فأنتم الذين قضيتم على أنفسكم بما فرط منكم . فإن أردتم الخلاص مما كرهتم ، فأقدموا على محاربة من يليكم من سكان الأرض الموعودة ، فإن الله كافل لكم النصر عليهم ، وعند ذلك تجدون طلبتكم ، فالتمسوا الخير في أنفسكم وفي أفعالكم ، فإن الله لا يضيع أجر العاملين .

                          قال - تعالى - : ( وضربت عليهم الذلة والمسكنة ) الذلة والذل خلق خبيث من أخلاق نفس الإنسان يضاد الإباء والعزة ، وأصل المادة فيه معنى اللين . فالذل بالكسر : اللين ، وبالضم والكسر : ضد الصعوبة ، وإذا تتبعت المادة وجدتها لا تخلو من هذا المعنى . صاحب هذا الخلق لين ينفعل لكل فاعل ، ولا يأبى ضيم ضائم . غير أن هذا الخلق الذي يهون على النفس قبول كل شيء لا يظهر أثره غالبا على البدن وفي القول إلا عند الاستذلال والقهر . وكثيرا ما ترى الأذلاء تحسبهم أعزاء يختالون في مشيتهم من الكبرياء ، ويباهون بما لهم من سلف وآباء ، وربما فاخروا من لا يخشون سطوته من الكبراء :


                          وإذا ما خلا الجبان بأرض طلب الطعن وحده والنزالا



                          ولكن متى شعر الذليل بنية من نفس القاهر ، أو طاف بذهنه خيال يد تمتد إليه استخذى واستكان ، وظهر السكون على بدنه ، واشتمل الخشوع على قوله وفعله ، وهذا الأثر الذي يسطع من النفس على البدن هو الذي يسمى المسكنة . وإنما سمي الفقر مسكنة ؛ لأن العائل المحتاج تضعف حركته ويذهب نشاطه ، فهو بعدم ما يسد عوزه كأنه يقرب من عالم الجماد ، فلا تظهر فيه حاجة الأحياء فيسكن . والمشاهدة ترشدنا إلى تحقيق ما عليه أهل المسكنة في أوضاع أعضائهم وما يبدو على وجوههم وما طبع في أقوالهم وأعمالهم . فضرب الذلة والمسكنة على اليهود هو جعل الذل وضعف العزيمة محيطين بهم كما تحيط القبة المضروبة بمن فيها .

                          أو إلصاقهما بطباعهم كما تطبع الطغرى على السكة ، ( وباءوا بغضب من الله ) أي رجعوا به كما يقال : رجع أو عاد بصفقة المغبون إذا كان ذلك آخر شوطه ومنتهى سعيه ، وكذلك كان آخر أطوار اليهود في بغيهم أيام ملكهم . والمراد به : فقد الملك وما يتبعه . وقال شيخنا : استحقوا غضبه ومن استحقه فقد أصابه ، فقد غضب الله عليهم ، وتنكير الغضب دلالة على أنه نوع عظيم من سخطه جل شأنه . ( ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ) ( أقول ) أي ذلك العقاب بضرب الذلة والمسكنة وبالغضب الإلهي بسبب ما جروا عليه من الكفر [ ص: 276 ] بآيات الله . . . إلخ . فإنهم بإحراجهم لموسى - عليه السلام - وإعناتهم له في المطالب ، مع كثرة ما شاهدوا من العجائب ، وما أظهر الله من الغرائب ، وقد دلوا على أن لا أثر للآيات في نفوسهم ، فهم بها كافرون في الحقيقة . ونسيان الآيات وعدها كأن لم تكن يعده الكتاب العزيز كفرا كما قال شيخنا ( ويقتلون النبيين بغير الحق ) مع أن الكتاب يحرم عليهم قتل غير الأنبياء فضلا عنهم إلا بحقه المبين فيه ، كل ذلك دل فيهم على طباع بعيدة عن الكرم ، وقلوب غلف دون الفهم ، ومن كان هذا شأنه فالأجدر به أن يكون ذليلا مقهورا ، ثم هو مهبط غضب الله ومحط نقمه ؛ لأنه أشد الناس كفرا لنعمه ، وقوله : ( بغير الحق ) مع أن قتل النبيين لا يكون إلا كذلك يزيد في شناعة حالهم ، ويصرح بأنهم لم يكونوا مخطئين في الفهم ، ولا متأولين للحكم ، بل ارتكبوا هذا الجرم العظيم عامدين ، وهم يعلمون أنهم بارتكابه مخالفون لما شرع الله - تعالى - لهم في كتاب دينهم . ( ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) قال الأستاذ : ذلك الذل وتلك الخلاقة بالغضب إنما لزماهم ؛ لأنهم عصوا الله فيما أمرهم أن يأخذوا به من الأحكام ؛ ولأنهم اعتدوا تلك الحدود التي حدها الله لهم في شرائع أنبيائهم ، وقد كانت تلك الأحكام والحدود هي الوسيلة لإخراجهم من الذل وتمكين العز والسلطان لهم في الأرض الموعودة ؛ لأنها كانت الكافلة بنظامهم ، الحافظة لبناء جماعتهم ، فإذا أهملوها فسدت ألفتهم ، وانهدم بناؤهم ، وأسرعت إليهم الذلة التي لم تكن فارقتهم إلا منهزمة من يدي سلطان الشريعة ، ولم يكن يصدها عنهم إلا معاقل النظام تحت رعايته ، ولزمتهم الذلة والمسكنة بعد هذا لزوم الطابع للمطبوع .

                          والمتبادر - وعده الأستاذ احتمالا - أن ترجع الإشارة في ( ذلك ) إلى الثاني أي الكفر بآيات الله وقتل النبيين . أي إن كفرهم وجراءتهم على النبيين بالقتل ، إنما منشؤهما عصيانهم واعتداؤهم حدود دينهم ؛ لأن الذي يدين بدين أو شريعة أيا كانت يتهيب لأول الأمر مخالفتها ، فإذا خالفها لأول مرة تركت المخالفة أثرا في نفسه ، وضعفت هيبة الشريعة في نظره ، فإذا عاد زاد ضعف سلطة الشريعة على إرادته ، ولا يزال كذلك حتى تصير المخالفة طبعا ورينا ، وينسى ما قام على الشريعة من دليل ، وما كان لها من سيطرة ، ويضرى بالعدوان ، كما يضرى الحيوان بالافتراس ، وكل عمل يسترسل فيه العامل تقوى ملكته فيه خصوصا ما اتبع فيه الهوى .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية