الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        [ ص: 515 ] اعلم أنا إذا بنينا على أن البدع منقسمة إلى الأحكام الخمسة فلا إشكال في اختلاف رتبتها ، لأن النهي من جهة انقسامه إلى نهي الكراهية ، ونهي التحريم يستلزم أن أحدهما أشد في النهي من الآخر ، فإذا انضم إليهما قسم الإباحة ظهر الاختلاف في الأقسام ، فإذا اجتمع إليها قسم الندب وقسم الوجوب كان الاختلاف فيها أوضح ـ وقد مر من أمثلتها أشياء كثيرة ـ لكنا لا نبسط القول في هذا التقسيم ولا بيان رتبه بالأشد والأضعف ، لأنه إما أن يكون حقيقيا فالكلام فيه عناء ، وإن كان ( غير ) حقيقي فقد تقدم أنه غير صحيح ، فلا فائدة في التفريع على ما لا يصح ، وإن عرض في ذلك نظر أو تفريع فإنما يذكر بحكم التبع بحول ( الله ) .

                        فإذا خرج عن هذا التقسيم ثلاثة أقسام : قسم الوجوب ، وقسم الندب ، وقسم الإباحة ، انحصر النظر فيما بقي وهو الذي ثبت من التقسيم ، غير أنه ورد النهي عنها على وجه واحد ، ونسبته إلى الضلالة واحدة ، في قوله :

                        إياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار وهذا عام في كل بدعة ، [ ص: 516 ] فيقع السؤال : هل لها حكم واحد أم لا ؟ فنقول : ثبت في الأصول أن الأحكام الشرعية خمسة ، نخرج عنها الثلاثة ، فيبقى حكم الكراهية وحكم التحريم ، فاقتضى النظر انقسام البدع إلى القسمين ، فمنها بدعة محرمة ، ومنها بدعة مكروهة ، وذلك أنها داخلة تحت جنس المنهيات وهي لا تعدو الكراهة والتحريم ، فالبدع كذلك ، هذا وجه .

                        ووجه ثان : أن البدع إذا تؤمل معقولها وجدت رتبتها متفاوتة ، فمنها ما هو كفر صراح ، كبدعة الجاهلية التي نبه عليها القرآن ، كقوله تعالى : وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا ، وقوله تعالى : وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء وقوله تعالى : ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ، وكذلك بدعة المنافقين حيث اتخذوا الدين ذريعة لحفظ النفس والمال ، وما أشبه ذلك مما يشك أنه كفر صراح .

                        ومنها ما هو من المعاصي التي ليست بكفر أو يختلف ؛ هل هي كفر أم لا ؟ كبدعة الخوارج والقدرية والمرجئة ومن أشبههم من الفرق الضالة .

                        - ومنها ما هو معصية ، ويتفق عليها ، وليست بكفر كبدعة التبتل ، [ ص: 517 ] والصيام قائما في الشمس ، والخصاء بقصد قطع شهوة الجماع .

                        - ومنها ، ما هو مكروه كما يقول مالك في إتباع رمضان بست من شوال ، وقراءة القرآن بالإدارة ، والاجتماع للدعاء عشية عرفة ، وذكر السلاطين في خطبة الجمعة ـ على ما قاله ابن عبد السلام الشافعي ـ وما أشبه ذلك .

                        فمعلوم أن هذه البدع ليست في رتبة واحدة فلا يصح مع هذا أن يقال : إنها على حكم واحد ، هو الكراهة فقط ، أو التحريم فقط .

                        ووجه ثالث : أن المعاصي منها صغائر ومنها كبائر ، ويعرف ذلك بكونها واقعة في الضروريات أو الحاجيات أو التكميليات ، فإن كانت في الضروريات فهي أعظم الكبائر ، وإن وقعت في التحسينات فهي أدنى رتبة بلا إشكال ، وإن وقعت في الحاجيات فمتوسطة بين الرتبتين .

                        ثم إن كل رتبة من هذه الرتب لها مكمل ، ولا يمكن في المكمل أن يكون في رتبة المكمل ، فإن ( المكمل مع المكمل ) في نسبة الوسيلة مع المقصد ، ولا تبلغ الوسيلة رتبة المقصد ، فقد ظهر تفاوت رتب المعاصي والمخالفات .

                        وأيضا ، فإن من الضروريات إذا تؤملت وجدت على مراتب في التأكيد وعدمه :

                        فليست مرتبة النفس كمرتبة الدين ، وليس تستصغر حرمة النفس في جنب حرمة الدين ، فيبيح الكفر الدم ، والمحافظة على الدين مبيح لتعريض النفس للقتل والإتلاف ، في الأمر بمجاهدة الكفار والمارقين عن الدين .

                        [ ص: 518 ] ومرتبة العقل والمال ليست كمرتبة النفس ، ألا ترى أن قتل النفس مبيح للقصاص ؟ فالقتل بخلاف العقل والمال ، وكذلك سائر ما بقي .

                        وإذا نظرت في مرتبة النفس تباينت المراتب ، فليس قطع العضو كالذبح ، ولا الخدش كقطع العضو وهذا كله محل بيانه الأصول .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية