الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ بيع ]

                                                          [ ص: 194 ] وقولهم لا خيار للمتبايعين بعد العقد بأنهما يسميان متبايعين وهما متساومان قبل عقدهما البيع ، واحتج في ذلك بقول الشماخ في رجل باع قوسا :


                                                          فوافى بها بعض المواسم ، فانبرى لها بيع ، يغلي لها السوم ، رائز .



                                                          قال : فسماه بيعا وهو سائم ، قال الأزهري : وهذا وهم وتمويه ، ويرد ما تأوله هذا المحتج شيئان : أحدهما أن الشماخ قال هذا الشعر بعدما انعقد البيع بينهما ، وتفرقا عن مقامهما الذي تبايعا فيه فسماه بيعا بعد ذلك ، ولو لم يكونا أتما البيع لم يسمه بيعا ، وأراد بالبيع الذي اشترى ، وهذا لا يكون حجة لمن يجعل المتساومين بيعين ولما ينعقد بينهما البيع ، والمعنى الثاني أنه يرد تأويله ما في سياق خبر ابن عمر - رضي الله عنهما - : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن يخير أحدهما صاحبه ، فإذا قال له : اختر ، فقد وجب البيع وإن لم يتفرقا " ألا تراه جعل البيع ينعقد بأحد شيئين : أحدهما أن يتفرقا عن مكانهما الذي تبايعا فيه ، والآخر أن يخير أحدهما صاحبه ؟ ولا معنى للتخيير إلا بعد انعقاد البيع ، قال ابن الأثير في قوله : لا يبع أحدكم على بيع أخيه : فيه قولان : أحدهما إذا كان المتعاقدان في مجلس العقد وطلب طالب السلعة بأكثر من الثمن ليرغب البائع في فسخ العقد فهو محرم ; لأنه إضرار بالغير ، ولكنه منعقد لأن نفس البيع غير مقصود بالنهي فإنه لا خلل فيه . الثاني : أن يرغب المشتري في الفسخ بعرض سلعة أجود منها بمثل ثمنها أو مثلها بدون ذلك الثمن فإنه مثل الأول في النهي ، وسواء كانا قد تعاقدا على المبيع أو تساوما وقاربا الانعقاد ولم يبق إلا العقد ، فعلى الأول يكون البيع بمعنى الشراء ، تقول : بعت الشيء بمعنى اشتريته وهو اختيار أبي عبيد . وعلى الثاني يكون البيع على ظاهره ، وقال الفرزدق :


                                                          إن الشباب لرابح من باعه     والشيب ليس لبائعيه تجار .



                                                          يعني من اشتراه . والشيء مبيع ومبيوع مثل مخيط ومخيوط على النقص والإتمام ، قال الخليل : الذي حذف من مبيع واو مفعول ; لأنها زائدة وهي أولى بالحذف . وقال الأخفش : المحذوفة عين الفعل ؛ لأنهم لما سكنوا الياء ألقوا حركتها على الحرف الذي قبلها فانضمت ، ثم أبدلوا من الضمة كسرة للياء التي بعدها ، ثم حذفت الياء وانقلبت الواو ياء كما انقلبت واو ميزان للكسرة ، قال المازني : كلا القولين حسن وقول الأخفش أقيس . قال الأزهري : قال أبو عبيد : البيع من حروف الأضداد في كلام العرب . يقال : باع فلان إذا اشترى وباع من غيره ; وأنشد قول طرفة :


                                                          ويأتيك بالأنباء من لم تبع له     نباتا ، ولم تضرب له وقت موعد .



                                                          أراد من لم تشتر له زادا . والبياعة : السلعة ، والابتياع : الاشتراء . وتقول : بيع الشيء ، على ما لم يسم فاعله ، إن شئت كسرت الباء ، وإن شئت ضممتها ، ومنهم من يقلب الياء واوا فيقول : بوع الشيء ، وكذلك القول في كيل وقيل وأشباهها ، وقد باعه الشيء وباعه منه بيعا فيهما ; قال :


                                                          إذا الثريا طلعت ، عشاء     فبع لراعي غنم كساء .



                                                          وابتاع الشيء : اشتراه وأباعه : عرضه للبيع ، قال الهمداني :


                                                          فرضيت آلاء الكميت ، فمن يبع     فرسا ، فليس جوادنا بمباع .



                                                          أي : بمعرض للبيع ، وآلاؤه : خصاله الجميلة ، ويروى أفلاء الكميت . وبايعه مبايعة وبياعا : عارضه بالبيع ، قال جنادة بن عامر :


                                                          فإن أك نائيا عنه ، فإني     سررت بأنه غبن البياعا .



                                                          وقال قيس بن ذريح :


                                                          كمغبون يعض على يديه     تبين غبنه بعد البياع .



                                                          واستبعته الشيء أي : سألته أن يبيعه مني . ويقال : إنه لحسن البيعة من البيع مثل الجلسة والركبة . وفي حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - : أنه كان يغدو فلا يمر بسقاط ولا صاحب بيعة إلا سلم عليه ، البيعة ، بالكسر ، من البيع : الحالة كالركبة والقعدة . والبيعان : البائع والمشتري ، وجمعه باعة عند كراع ، ونظيره عيل وعالة وسيد وسادة ، قال ابن سيده : وعندي أن ذلك كله إنما هو جمع فاعل ، فأما فيعل فجمعه بالواو والنون ، وكل من البائع والمشتري بائع وبيع . وروى بعضهم هذا الحديث : " المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا " . والبيع : اسم المبيع ، قال صخر الغي :


                                                          فأقبل منه طوال الذرى     كأن عليهن بيعا جزيفا .



                                                          يصف سحابا ، والجمع بيوع . والبياعات : الأشياء التي يتبايع بها في التجارة . ورجل بيوع : جيد البيع ، وبياع : كثيره ، وبيع كبيوع ، والجمع بيعون ولا يكسر ، والأنثى بيعة ، والجمع بيعات ، ولا يكسر ، حكاه سيبويه ، قال المفضل الضبي : يقال : باع فلان على بيع فلان ، وهو مثل قديم تضربه العرب للرجل يخاصم صاحبه وهو يريغ أن يغالبه ، فإذا ظفر بما حوله قيل : باع فلان على بيع فلان ، ومثله : شق فلان غبار فلان . وقال غيره : يقال : باع فلان على بيعك أي : قام مقامك في المنزلة والرفعة ، ويقال : ما باع على بيعك أحد أي : لم يساوك أحد ، وتزوج يزيد بن معاوية - رضي الله عنه - أم مسكين بنت عمرو على أم هاشم فقال لها :


                                                          ما لك أم هاشم تبكين ؟     من قدر حل بكم تضجين ؟
                                                          باعت على بيعك أم مسكين     ميمونة من نسوة ميامين .



                                                          وفي الحديث : نهى عن بيعتين في بيعة ، وهو أن يقول : بعتك هذا الثوب نقدا بعشرة ، ونسيئة بخمسة عشر ; فلا يجوز لأنه لا يدري [ ص: 195 ] أيهما الثمن الذي يختاره ليقع عليه العقد ، ومن صوره أن تقول : بعتك هذا بعشرين على أن تبيعني ثوبك بعشرة فلا يصح للشرط الذي فيه ولأنه يسقط بسقوطه بعض الثمن فيصير الباقي مجهولا ، وقد نهي عن بيع وشرط وبيع وسلف ، وهما هذان الوجهان . وأما ما ورد في حديث المزارعة : نهى عن بيع الأرض ، قال ابن الأثير أي : كرائها ، وفي حديث آخر : " لا تبيعوها " أي : تكروها . والبيعة : الصفقة على إيجاب البيع وعلى المبايعة والطاعة . والبيعة : المبايعة والطاعة . وقد تبايعوا على الأمر : كقولك أصفقوا عليه ، وبايعه عليه مبايعة : عاهده . وبايعته من البيع والبيعة جميعا ، والتبايع مثله . وفي الحديث أنه قال : " ألا تبايعوني على الإسلام ؟ " هو عبارة عن المعاقدة والمعاهدة كأن كل واحد منهما باع ما عنده من صاحبه وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره ، وقد تكرر ذكرها في الحديث . والبيعة بالكسر : كنيسة النصارى ، وقيل : كنيسة اليهود ، والجمع بيع ، وهو قوله تعالى : وبيع وصلوات ومساجد ; قال الأزهري : فإن قال قائل : فلم جعل الله هدمها من الفساد وجعلها كالمساجد وقد جاء الكتاب العزيز بنسخ شريعة النصارى واليهود ؟ فالجواب في ذلك أن البيع والصوامع كانت متعبدات لهم إذ كانوا مستقيمين على ما أمروا به غير مبدلين ولا مغيرين ، فأخبر الله - جل ثناؤه - أن لولا دفعه الناس عن الفساد ببعض الناس لهدمت متعبدات كل فريق من أهل دينه وطاعته في كل زمان ، فبدأ بذكر البيع على المساجد ; لأن صلوات من تقدم من أنبياء بني إسرائيل وأممهم كانت فيها قبل نزول الفرقان وقبل تبديل من بدل ، وأحدثت المساجد وسميت بهذا الاسم بعدهم فبدأ - جل ثناؤه - بذكر الأقدم وأخر ذكر الأحدث لهذا المعنى . ونبايع ، بغير همز : موضع ، قال أبو ذؤيب :


                                                          وكأنها بالجزع جزع نبايع     وأولات ذي العرجاء نهب مجمع .



                                                          قال ابن جني : هو فعل منقول وزنه نفاعل ك " نضارب " ونحوه إلا أنه سمي به مجردا من ضميره ، فلذلك أعرب ولم يحك ، ولو كان فيه ضميره لم يقع في هذا الموضع ; لأنه كان يلزم حكايته إن كان جملة كذرى حبا وتأبط شرا ، فكان ذلك يكسر وزن البيت ; لأنه كان يلزمه منه حذف ساكن الوتد فتصير متفاعلن إلى متفاعل ، وهذا لا يجيزه أحد ، فإن قلت : فهلا نونته كما تنون في الشعر الفعل نحو قوله :


                                                          من طلل كالأتحمي أنهجن .



                                                          وقوله :


                                                          داينت أروى والديون تقضين .



                                                          فكان ذلك يفي بوزن البيت لمجيء نون متفاعلن ؟ قيل : هذا التنوين إنما يلحق الفعل في الشعر إذا كان الفعل قافية ، فأما إذا لم يكن قافية فإن أحدا لا يجيز تنوينه ، ولو كان نبايع مهموزا لكانت نونه وهمزته أصليتين فكان كعذافر ، وذلك أن النون وقعت موقع أصل يحكم عليها بالأصلية ، والهمزة حشو فيجب أن تكون أصلا ، فإن قلت : فلعلها كهمزة حطائط وجرائض ؟ قيل : ذلك شاذ فلا يحسن الحمل عليه وصرف نبايع ، وهو منقول مع ما فيه من التعريف والمثال ، ضرورة ، والله أعلم .

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية