الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى

                                                          الضمير يعود على الله تعالى ذي الجلال، وهو سبحانه الذي يتوفاكم بالليل، والمراد إنامتكم، ولم يعبر بـ: تسكنوا في الليل وهو يتضمن معنى النوم؛ لأن السياق لبيان قدرة الله تعالى، وسلطانه عليهم، وكونهم في قبضة يده، وأنه يحصي عليهم أعمالهم، فكان التعبير بالوفاة عنه أنسب، والنوم يعتبر من قبيل الوفاة، كما قال تعالى: الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى

                                                          فالموت الأكبر هو قضاء النحب، والموت الأصغر هو النوم، ولقد شبه النبي -صلى الله عليه وسلم- عند إنذار عشيرته بأمر ربه: "والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، وإنها لجنة أبدا، أو لنار أبدا".

                                                          وقوله: ويعلم ما جرحتم بالنهار الجرح هو إصابة الأعضاء والأجسام بما يدميها، ويطلق على الكسب، والمراد هنا الكسب خبيثا أو طيبا، وسميت سباع [ ص: 2526 ] البهائم جوارح، لأنها تجرح، وتكسب قوتها بجراحتها، وسميت الأعضاء العاملة في جسم الإنسان جوارح؛ لأنها هي التي تكسب، وهي التي تجرح، والمراد -والله تعالى أعلم- أن الله تعالى يعلم ما جرح الناس بالنهار، فيعلم خفايا نياتهم في أعمالهم، ويعلم ما يكسبون من خير وشر، ويعلم ما يخفون وما يبدون، وفي ذلك إنذار وتبشير؛ فهو إنذار لمن يكتسبون الشر، وتبشير لمن يكسبون الخير، وأحسب أن استعمال جرحتم الذوق البياني يجعلها أقرب إلى استعمال الشر، ولكن الأولى هو التعميم، والله سبحانه وتعالى أعلم بالمراد.

                                                          وقوله تعالى: ثم يبعثكم فيه الضمير يعود إلى النهار، ويكون الكلام متصلا بالتوفي بالليل، فالسياق: يتوفاكم بالليل، ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم في النهار بعد الليل، ولذلك قال الشوكاني في تفسيره: إن الضمير يعود إلى الليل، لابتداء النهار والمؤدى واحد، وإن كان ثمة اختلاف في توجيه السياق والإعراب، وكان التعبير بـ: "ثم" لتفاوت ما بين مظهر الليل ومظهر النهار، والتفاوت ما بين أعمال النهار وأعمال الليل.

                                                          إن تداول الليل والنهار مستمر، فليل يعقبه نهار، ونهار يعقبه ليل لنهاية واحدة، وهو قضاء أجل مسمى عند الله تعالى، وإن كان لا يعلمه إلا الله تعالى لأنه سبحانه وتعالى يقول: إن الله عنده علم الساعة وينـزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير

                                                          ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم إنه بعد أن يقضى الأجل المسمى، يكون المرجع إلى الله وحده، فلا سلطان لغيره، ولا يرجع إلى أحد سواه، ودل على هذا القصر تقديم الجار والمجرور، فإنه دل على القصر، والتعبير بـ: "ثم"؛ لأن هناك تفاوتا زمنيا، بمقتضى الأجل المسمى الذي يطول ويقصر، ولتفاوت ما بين ما يكون في الحياة الدنيا من لهو وعبث وتفاخر، وتقوى أحيانا، ثم قال [ ص: 2527 ] سبحانه: ثم ينبئكم بما كنتم تعملون والتعبير بـ: "ثم" أيضا لتفاوت ما بين الحياتين، وليتبين الإخبار بالعمل العظيم، وإخبار الله تعالى بما كانوا يعملون يتضمن أمرين: أولهما: أن العمل يكون مبينا لهم كأنه حاضر أمامهم يشاهد ويبصر، لا يخفى منه شيء صغيرا أو كبيرا. وثانيهما: الجزاء عليه وسمى جزاء عمل العامل عملا له; لأن الجزاء عادل مساو لاستحقاقه كأنه هو، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره.

                                                          وبعد أن بين سبحانه بكل شيء، وبكل إنسان، وأن لكل جزاءه على قدر عمله. بين قدرته القاهرة، فقال تعالى:

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية