الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بالقدم ، قال : "الوجه العاشر: أنه لو كان العالم محدثا فمحدثه إما أن يكون مساويا له من كل وجه ، أو مخالفا له من كل وجه ، فإن كان الأول فهو حادث ، والكلام فيه كالكلام في الأول ، ويلزم التسلسل الممتنع ، وإن كان الثاني فالمحدث ليس بموجود ، وإلا لما كان مخالفا له من كل وجه ، وهو خلاف الفرض ، وإذا لم يكن موجودا امتنع أن يكون موجبا للموجود كما سبق ، وإن كان الثالث فمن جهة ما هو مماثل للحادث يجب أن يكون حادثا ، والكلام فيه كالأول ، وهو تسلسل محال . وهذه المحاولات إنما لزمت من القول بحدوث العالم، فلا حدوث" .

ثم قال في الجواب : "وأما الشبهة العاشرة فالمختار من أقسامها [ ص: 168 ] إنما هو القسم الأخير ، ولا يلزم من كون القديم مماثلا للحوادث من وجه أن يكون مماثلا للحادث من جهة كونه حادثا ، بل لا مانع من الاختلافات بينهما في صفة القدم والحدوث، وإن تماثلا بأمر آخر ، وهذا كما أن السواد والبياض مختلفان من وجه دون وجه لاستحالة اختلافهما من كل وجه ، وإلا لما اشتركا في العرضية واللونية والحدوث ، واستحالة تماثلهما من كل وجه وإلا كان السواد بياضا، ومع ذلك فما لزم من مماثلة السواد للبياض من وجه أن يكون مماثلا له في صفة البياضية" .

وإن عنى به أنه لو كان جوهرا مماثلا في مسمى الجوهرية ، فهذا مثل أن يقال : لو كان حيا مماثلا للأحياء في مسمى الحيية ، أو عالما مماثلا للعلماء في مسمى العالمية ، أو قادرا مماثلا للقادرين في مسمى القادرية ، أو موجودا مماثلا للموجودات في مسمى الموجودية ، وحينئذ فموافقته في ذلك لا تستلزم أن يكون مماثلا لها فيما يجب ويجوز ويمتنع، إلا أن تكون الجواهر كلها كذلك .

ومعلوم أن من يقول: هو جوهر ، لا يقول إن الجواهر متماثلة ، بل يقول: إنه مخالف لغيره ، بل جمهور العقلاء يقولون: إن [ ص: 169 ] الجواهر مختلفة في الحقائق. وحينئذ فتبقى هذه الوجوه موقوفة على القول بتماثل الجواهر ، والمنازع يمنع ذلك ، بل ربما قال: العلم باختلافها ضروري .

ودعوى تماثلها مخالف للحس والعلم الضروري ، فإنا نعلم أن حقيقة الماء مخالفة لحقيقة النار ، وأن حقيقة الذهب مخالفة لحقيقة الخبز ، وأن حقيقة الدم مخالفة لحقيقة التراب ، وأمثال ذلك، وأن اشتراكهما في كونهما جوهرين هو اشتراكهما في كونهما قائمين بأنفسهما أو متحيزين أو قابلين للصفات، وهذا اشتراك في بعض صفاتهما، لا في الحقيقة الموصوفة بتلك الصفات .

الثالث : أنه إن أراد بقوله : إنه جوهر كالجواهر: أنه مماثل لكل جوهر في حقيقته، ويجوز عليه ما يجوز على كل جوهر ، فهذا لا يقوله عاقل . وإنما أراد المنازع أنه: إما قائم بنفسه، وإما متحيز ، وإما نحو ذلك من المعاني التي يقول إن الاشتراك فيه كالاشتراك في كون كل منهما حيا عالما قائما بنفسه ونحو ذلك ، فيبقى النزاع في أن مسمى الجوهر عند هؤلاء يقتضي تماثل أفراده .

وهؤلاء يقولون : لا ، بل هو اسم لما تختلف أفراده ، وفي أن هؤلاء يقولون : الاشتراك في التحيز الاصطلاحي يقتضي التماثل في الحقيقة ، وهؤلاء ينفون ذلك . [ ص: 170 ]

ومعلوم عند التحقيق أن قول النفاة للتماثل هو الحق ، كما قد بسط في موضعه .

وهؤلاء يقولون : قولنا: جوهر ، كقولكم : ذات قائمة بنفسها ونحو ذلك .

فتبين أن ما ذكره من الدليل على نفي الجوهر هو دليل على نفي ما اتفقت الطوائف على نفيه ، فإن أحدا من العقلاء لا يقول: إنه جوهر، بمعنى مماثلته لكل قائم بنفسه فيما يجب ويجوز ويمتنع ، وما قاله المثبتة ، منه ما سلم لهم معناه ، ومنه ما لا حجة له على نفيه إلا حجته على نفي الجسم ، وحينئذ فيكون الكلام في نفي الجوهر مفرعا على الكلام في نفي الجسم .

وقوله : "إن الوجوه الأربعة التي نفي بها الجوهر ينفى [بها] الجسم" لا يستقيم، فإنه إنما نفي بها الجوهر بمعنى أنه مماثل لغيره فيما يجب ويجوز ويمتنع ، وهذا مما يسلمه له من يقول إنه جوهر وجسم، فإقامة الدليل عليه نصب للدليل في غير محل النزاع، لم ينف بها الجوهر بالمعنى الذي يثبته من قاله .

التالي السابق


الخدمات العلمية