الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون

                                                          أمر الله تعالى نبيه الكريم أن يبين لهم أن الله تعالى مستجيب لضراعتهم عند تضرعهم، والتجائهم إليه خفية، ووعدهم بأن يخلصوا عبادتهم لله ويشكروه على نعمائه المتضافرة المتكاثرة التي نعيش في ظلها دائما، وإن كان تعالت حكمته يعلم أنهم غير موفين لعهدهم، وأنهم ناكثون في أيمانهم، كما حكى سبحانه وتعالى عن طبيعة الإنسانية المنحرفة؛ إذ قال تعالت كلماته: وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه

                                                          وإن الله تعالى بين أنه لا ينجيهم مما يعرض لهم من شدائد من خارجهم، وما لا قبل لهم به وحسب، بل ينجيهم من ذلك، وينجيهم من الكروب التي تعتري نفوسهم من ضراء تنزل بهم، أو مرض يحل بأجسامهم، ومن كل شيء يكربهم ويلقي غمة النفس عليهم، ولذلك قال سبحانه: ومن كل كرب ولقد فسر الأصفهاني في مفرداته الكرب فقال: الكرب الغم الشديد.

                                                          فنجيناه وأهله من الكرب العظيم والكربة كالغمة. وأصل ذلك من كرب الأرض وهو قلبها بالحفر، فالغم يثير النفس إثارة، ويصح أن يكون ذلك من كربت [ ص: 2533 ] الشمس، أي: دنت للمغيب، ويستفاد من هذا أن الكرب غمة شديدة تصيب الإنسان من أمر نفسي يثير النفس، ويجعلها في قلق وحيرة واضطراب نفسي، ويقيم عليها، كمرض عزيز أو موته، أو ضرر أو فقد مال أو خسارة في تجارة، فالله تعالى هو المنجي منه، وبهذا تبين أن الله تعالى هو الذي ينجي خلقه من كل شيء، فهو القائم على كل شيء، ومع هذا الخير العميم، ومع استجابة الله تعالى لضراعتهم، والتجائهم إليه، وإنجائه لهم بالفعل بعد أقسموا إن نجاهم يشكرونه أي: يعبدونه وحده; لأنه الذي أنجاهم، وخلصهم مما هم فيه، مع هذا بمجرد أن يعودوا إلى الاطمئنان والاستقرار يشركون، ويحنثون في أيمانهم، ويعودون إلى ما كانوا عليه، بل إنهم يستمرون في غيهم يعمهون، وإنه كما قال بعض المفسرين: الأصل في السياق أن تكون حالهم حال من لا يشرك، فكان مقتضى الضراعة أن ينفي الله شركهم بعد قسمهم على الشكر والعبادة، ولكن عاد إليهم جحودهم; ولذا قال سبحانه: ثم أنتم تشركون أي: أن إذعانهم العارض لم يكن ساكنا في نفوسهم، بل هو أمر عارض، بسبب يزول بزواله، ولم يكن إذعان الذين خلصوا بنفوسهم، ويلاحظ بعد إشارات بيانية:

                                                          أولها: التعبير بـ: "ثم" ففيه إشارة إلى التفاوت الكبير بين حال ضراعتهم، وحال كفرهم، أو بعبارة أدق استمرار حالهم.

                                                          الثانية: أنه سبحانه عبر بالجملة الاسمية، وذلك تأكيد لشركهم الذي كان نقيض شكرهم الذي وعدوا به ونكثوا في وعدهم.

                                                          الثالثة: أنه عبر بالفعل المضارع الذي يصور حالهم ويدل على استمرارهم.

                                                          وبعد أن بين سبحانه وتعالى كمال سلطانه في النعم يمنحها ليرغبوا في الإيمان والإذعان، ذكر سبحانه قوته في القهر والعذاب.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية