الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 8698 ) مسألة : قال : ( وإذا كاتب عبده ، أو أمته على أنجم ، فأديت الكتابة ، فقد صار العبد حرا ، وولاؤه لمكاتبه ) في هذه المسألة ثلاثة فصول : ( 8699 ) الفصل الأول : أن ظاهر هذا الكلام ، أن الكتابة لا تصح حالة ، ولا تجوز إلا مؤجلة منجمة . وهو ظاهر المذهب . وبه قال الشافعي ، وقال مالك ، وأبو حنيفة : تجوز حالة ; لأنه عقد على عين ، فإذا كان عوضه في الذمة ، جاز أن يكون حالا ، كالبيع .

                                                                                                                                            ولنا ، أنه روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ، أنهم عقدوا الكتابة ، ولم ينقل عن واحد منهم أنه عقدها حالة ، ولو جاز ذلك ، لم يتفق جميعهم على تركه ، ولأن الكتابة عقد معاوضة ، يعجز عن أداء عوضها في الحال ، فكان من شرطه التأجيل ، كالسلم على مذهب أبي حنيفة ، ولأنها عقد معاوضة يلحقه الفسخ من شرطه ذكر العوض ، فإذا وقع على وجه يتحقق فيه العجز عن العوض ، لم يصح ، كما لو أسلم في شيء لا يوجد عند محله ، ويفارق البيع ; لأنه لا يتحقق فيه العجز عن العوض ، لأن المشتري يملك المبيع ، والعبد لا يملك شيئا ، وما في يده لسيده . وفي التنجيم حكمتان ; إحداهما ، يرجع إلى المكاتب ، وهي التخفيف عليه ; لأن الأداء مفرقا أسهل ، ولهذا تقسط الديون على المعسرين عادة ، تخفيفا عليهم . والأخرى ، للسيد ، وهي أن مدة الكتابة تطول غالبا ، فلو كانت على نجم واحد ، لم يظهر عجزه إلا في آخر المدة ، فإذا عجز ، عاد إلى الرق ، وفاتت منافعه في مدة الكتابة كلها على السيد ، من غير نفع حصل له ، وإذا كانت منجمة نجوما ، فعجز عن النجم الأول ، فمدته يسيرة ، وإن عجز عما بعده ، فقد حصل للسيد نفع بما أخذه [ ص: 338 ] من النجوم قبل عجزه .

                                                                                                                                            إذا ثبت هذا ، فأقله نجمان فصاعدا . وهذا مذهب الشافعي . ونقل عن أحمد ، أنه قال : من الناس من يقول : نجم واحد . ومنهم من يقول : نجمان . ونجمان أحب إلي . وهذا يحتمل أن يكون معناه ، أني أذهب إلى أنه لا يجوز إلا نجمان . ويحتمل أن يكون المستحب نجمين ، ويجوز نجم واحد . قال ابن أبي موسى : هذا على طريق الاختيار ، وإن جعل المال كله في نجم واحد ، جاز ; لأنه عقد يشترط فيه التأجيل ، فجاز أن يكون إلى أجل واحد ، كالمسلم ، ولأن اعتبار التأجيل ليتمكن من تسليم العوض ، وهذا يحصل بنجم واحد . ووجه الأول ، ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : الكتابة على نجمين ، والإيتاء من الثاني . وهذا يقتضي أن هذا أقل ما تجوز عليه الكتابة ; لأن أكثر من نجمين يجوز بالإجماع .

                                                                                                                                            وروي عن عثمان رضي الله عنه أنه غضب على عبد له ، فقال : لأعاقبنك ، ولأكاتبنك على نجمين . ولو كان يجوز أقل من هذا ، لعاقبه به في الظاهر . وفي حديث بريرة ، أنها أتت عائشة رضي الله عنها فقالت : يا أم المؤمنين ، إني كاتبت أهلي على تسع أواق ، في كل عام أوقية ، فأعينيني . ولأن الكتابة مشتقة من الضم ، وهو ضم نجم إلى نجم ، فدل ذلك على افتقارها إلى نجمين .

                                                                                                                                            والأول أقيس . ولا بد أن تكون النجوم معلومة ، ويعلم في كل نجم قدر ما يؤديه ، ولا يشترط تساوي النجوم ، ولا قدر المؤدى في كل نجم . فإذا قال : كاتبتك على ألف ، إلى عشر سنين ، تؤدي عند انقضاء كل سنة مائة . أو قال : تؤدي منها مائة عند انقضاء خمس سنين ، وباقيها عند تمام العشرة . أو قال : تؤدي في آخر العام الأول مائة ، وتسعمائة عند انقضاء السنة العاشرة . فكل هذا جائز . وإن قال : تؤدي في كل عام مائة . جاز ، ويكون أجل كل مائة عند انقضاء السنة ، وظاهر قول القاضي ، وأصحاب الشافعي ، أنه لا يصح ; لأنه لم يتبين وقت الأداء من العام .

                                                                                                                                            ولنا ، أن بريرة قالت : كاتبت أهلي على تسع أواق ، في كل عام أوقية ولأن الأجل إذا علق بمدة ، تعلق بأحد طرفيها ; فإن كان بحرف " إلى " تعلق بأولها ، كقوله : إلى شهر رمضان . وإن كان بحرف " في " كان إلى آخرها ; لأنه جعل جميعها وقتا لأدائها ، فإذا أدى في آخرها ، كان مؤديا لها في وقتها ، فلم يتعين عليه الأداء قبله ، كتأدية الصلاة في آخر وقتها . وإن قال : يؤديها في عشر سنين . أو : إلى عشر سنين . لم يجز ; لأنه نجم واحد . ومن أجاز الكتابة على نجم واحد ، أجازه . وإن قال : يؤدي بعضها في نصف المدة ، وباقيها في آخرها . لم يجز ; لأن البعض مجهول ، يقع على القليل والكثير .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية