الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره

                                                          كان المشركون الذين خاطبهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالدعوة إلى الوحدانية. بعد أن أنذر وبشر، وصدع بأمر ربه، يتخاطبون فيما بينهم، لا يظلهم طلب الحق، ولا تدفعهم إرادة الحقيقة، وإنما يسود حديثهم اللجاجة في الجحود، ومعاندتهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- واستهزائهم بضعاف المؤمنين، وتدبيرهم أساليب تعذيبهم، فحالهم ليست حال من يستمعون إلى الحق; إذ دعوة الذين يلجون في الخصومة والمعاندة تزيدهم تشديدا في موقفهم، وصم آذانهم، ولذلك لا يكون من الخير تذكيرهم في هذه الحال الجاحدة لأنها تزيدهم إصرارا وجفاء وبعدا وعنادا.

                                                          والخوض أصل معناه في اللغة المرور في الماء، والشروع، والانغمار في موجاته، ثم استعمل في الانغمار في الأحاديث والأقوال باعتبارها تغطي الفكر، وتسيطر عليه كما يغطي الماء الخائض فيه. جاء في تفسير الشوكاني ما نصه: (الخطاب للنبي)، أو لكل من يصلح للخطاب، والخوض أصله في الماء ثم استعمل في غمرات الأشياء التي هي مجاهل تشبيها لغمرات الماء، فاستعير من المحسوس إلى المعقول، وقيل: هو مأخوذ من الخلط، وكل شيء خضته فقد خلطته، ومنه خاض الماء بالعسل وخلطه، والمعنى: إذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا بالتكذيب والرد، والاستهزاء فدعهم، ولا تقعد معهم لسماع هذا المنكر العظيم، حتى يخوضوا في حديث مغاير!

                                                          وإن جلوس النبي -صلى الله عليه وسلم- مع هؤلاء لا يتصور أن يكون لمجرد المسامرة، ولكن لأجل رسالته. والدعوة في هذا الخوض المعاند، لا تجدي كما ذكرنا، وإن الأمر [ ص: 2545 ] بالأعراض عنهم في حال العناد أمر للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولخاصته المؤمنين، وعامتهم، فعلى المؤمنين ألا يغشوا مجالس المبتدعة في أثناء تقرير ابتداعهم، وإعلان انحرافهم، فإنه لا جدوى في إرشادهم وهم في هذه الحال، وأن المؤمنين معرضون بكثرة الجدل معهم لأن تسري إليهم عدوى تفكيرهم، فإن الأفكار الفاسدة تعدي كما تعدي الأجسام المريضة الفاسدة، وقد شكا بعض الحنابلة أنهم لكثرة مجادلتهم مع الزنادقة سرت إليهم بعض طرق تفكيرهم.

                                                          وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين

                                                          إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان حريصا على دعوة المشركين، فبين الله تعالى كما ذكر آنفا أنهم إذا خاضوا في الآيات التي هي دلائل الرسالة، واستهزءوا بها وألحوا في جحودها، ولجوا في استمساكهم بما هم عليه لا يزيدهم ذكر الحق إلا لجاجة وعنادا وطغيانا إذ كلما جاءتهم آية ودلائل أخرى زادتهم كفرا، كما قال تعالى وإذا ما أنـزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون

                                                          فنكران الحق لا يزيد الظالمين إلا خسارا، ويدفعهم إلى اللجاجة.

                                                          ولذلك كان النهي في الآية السابقة، ولكن دعاة الحق في قلوبهم ميل إلى ذكره، وهداية الناس إليه، فقد يدفعهم ذلك إلى أن يعاودوا الدعوة إليه وذكره عند الخائضين منكرين مستهزئين; ولذلك كان النص الكريم مكررا النهي في حال النسيان بسبب الرغبة في الدعوة إلى الهداية، وقوله: وإما ينسينك الشيطان هي "إن" الشرطية مؤكدة بـ: "ما" ويصحب التأكيد بما التأكيد بالنون الثقيلة لغة وبيانا في ينسينك وهذا من مواضع وجوب التأكيد، والمعنى: إن أنساك الشيطان، نسيانا مؤكدا فقعدت معهم، فلا تقعد بعد التذكر معهم؛ لأنهم ظالمون، ولأجل بيان بعض مرامي النص نتكلم في النواحي الآتية: [ ص: 2546 ] الأولى: أن التأكيد إنما هو في النسيان، وأن السبب هو الشيطان، وإذا كان الشيطان هو السبب في الوسوسة التي أدت إلى ذلك النسيان فإنه يجب التوقي منه ومحاربته، وعدم الأخذ بما يدعو إليه، والتوبة والإقلاع عما دعا، ولكن: هل الشيطان بمعنى إبليس يسيطر على نفس النبي -صلى الله عليه وسلم- فينسيه ما يجب عليه، وإن الذي نعلمه، وهو مقرر أن إبليس نزعت من قلبه علقته، فهو لا يؤثر في نفس النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكن الطبيعة الإنسانية هي التي تعتري الإنسان فينسى، فكيف ينسب نسيان النبي إلى الشيطان; وقد أجيب عن ذلك بأن المراد بالخطاب في هذا المقام من يخاطب من الأمة، فليس للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولكن اللفظ للنبي -صلى الله عليه وسلم- فلا بد أن يدخل فيه ابتداء بمقتضى السياق، وإن كان الأمر يعم كل داع، والجواب الذي نرتضيه: أن الشيطان ليس هو إبليس هنا، إنما هو ما يعتري النفس الإنسانية من غفوات، أو سهو وهو جائز على النبي -صلى الله عليه وسلم- في غير بيان الأحكام، والتبليغ عن الله تعالى، فإن النسيان في هذا يتنافى مع مقام الرسالة من الله تعالت قدرته، وسمت حكمته. وعبر عن النسيان بنسبته إلى الشيطان للإشارة إلى وجوب توقيه.

                                                          الثانية: أن النهي جاء بعد التذكر، فلا نهي في حال النسيان لأنه رفع عن الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، وقال سبحانه: فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين عبر سبحانه وتعالى عن الذكر بالذكرى، ومعنى الذكرى كثرة الذكر، والتحري له، والحرص عليه، وذلك فيه إيماء إلى وجوب التحرز من النسيان ما أمكن، حتى لا يزداد الداعي تعبا، ويزداد المدعو لجاجة، فلا دعوة إلى الحق مع الإعراض عنه واللجاجة في الإعراض.

                                                          الثالثة: أن النص الكريم منع من القعود مع القوم الظالمين. أي: تجمعوا وتحزبوا، وهم مستمرون في ظلمهم بكفرهم، وإصرارهم عليه، ولجاجتهم، واستهزائهم، ففي النص وصف لهم بالظلم، وأنه السبب في عدم القعود معهم.

                                                          [ ص: 2547 ] وإن دعاة الباطل يتخذون لهم أوكارا، لا يجالسهم فيها إلا من هم على شاكلتهم، فيجب الابتعاد عنهم.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية