الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
وقال شيخ الإسلام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري في كتاب ذم الكلام في آخره لما عقد بابا في ذكر [ ص: 406 ] هؤلاء الأشعرية المتأخرين فقال: " باب في ذكر كلام الأشعري: ولما نظر المبرزون من علماء الأمة وأهل الفهم من أهل السنة طوايا كلام الجهمية وما أودعته من رموز الفلاسفة ولم يقف منهم إلا على التعطيل البحت، وأن قطب مذهبهم ومنتهى عقيدتهم ما صرحت به رؤوس الزنادقة قبلهم: أن الفلك دوار، والسماء خالية.

وأن قولهم: إنه تعالى في كل موضع وفي كل شيء، وما استثنوا جوف كلب ولا جوف خنزير ولا حشا فرارا من الإثبات وذهابا عن التحقيق، وأن قولهم: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، عليم بلا علم، قادر بلا قدرة، إله بلا نفس ولا شخص [ ص: 407 ] ولا صورة، ثم قالوا: لا حياة له، ثم قالوا: لا شيء، فإنه لو كان شيئا لأشبه الأشياء، حاولوا حول مقال رؤوس الزنادقة القدماء إذ قالوا: الباري لا صفة له ولا لا صفة، خافوا على قلوب ضعفاء المسلمين وأهل الغفلة وقلة الفهم منهم، إذ كان ظاهر تعلقهم بالقرآن، وإن كان اعتصاما به من السيف واجتنابا به منه، وإذ هم يرون التوحيد ويخاوضون المسلمين ويحملون الطيالسة، فأفصحوا بمعائبهم، وصاحوا بسوء ضمائرهم، ونادوا على خبايا نكتهم، فيا طول ما لقوا في أيامهم من سيوف الخلفاء وألسن العلماء، وهجران الدهماء، فقد شحنت كتاب " تكفير الجهمية " من مقالات علماء الإسلام [ ص: 408 ] فيهم ودأب الخلفاء فيهم، ودق عامة أهل السنة عليهم، وإجماع المسلمين على إخراجهم من الملة، ثقلت عليهم الوحشة، وطالت عليهم الذلة، وأعيتهم الحيلة إلا أن يظهروا الخلاف لأوليهم، والرد عليهم، ويصبغوا كلامهم صبغا يكون ألوح للأفهام وأنجع في العوام من أساس أوليهم، تحدوا بذلك المساع، وليتخلصوا من خزي الشناعة، فجاءت بمخاريق تراءى للعين بغير ما في الحشايا، ينظر الناظر الفهم في جذرها فيرى مخ الفلسفة يكسي لحاء السنة، وعقد الجهمية ينحل ألقاب الحكمة، يردون على اليهود قولهم: يد الله مغلولة [المائدة: 64] فينكرون الغل وينكرون اليد فيكونون أسوأ حالا من اليهود، لأن الله سبحانه أثبت الصفة ونفى العيب، واليهود [ ص: 409 ] أثبتت الصفة وأثبتت العيب، وهؤلاء نفوا الصفة كما نفوا العيب، ويردون على النصارى في مقالتهم في عيسى وأمه فيقولون: لا يكون في المخلوق غير المخلوق، فيبطلون القرآن فلا يخفى على ذوي الألباب أن كلام أولهم وكلام آخرهم كخيط السحارة، فاسمعوا الآن يا ذوي الألباب، وانظروا ما فضل هؤلاء على أولئك: أولئك قالوا: قبح الله مقالهم-: إن الله موجود بكل مكان، وهؤلاء يقولون: ليس هو في مكان ولا يوصف بأين. وقد قال المبلغ صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل لجارية معاوية بن الحكم رضي الله عنه " أين الله؟". وقالوا: هو من فوق، كما هو من تحت، لا ندري أين هو ولا يوصف بمكان، فليس هو في السماء، وليس هو في الأرض، وأنكروا [ ص: 410 ] الجهة والحد. وقال أولئك: ليس له كلام إنما خلق كلاما، وهؤلاء يقولون: تكلم مرة فهو متكلم به منذ تكلم لم ينقطع الكلام ولا يوجد كلامه في موضع ليس هو به، ثم يقولون: ليس هو في مكان، ثم قالوا: ليس له صوت ولا حروف. وقالوا: هذا زاج وورق، وهذا صوف وخشب، وهذا إنما قصد به النفس، وأريد به التفسير، وهذا صوت القاري، أما ترى أن منه حسنا وغير حسن، وهذا لفظه أوما تراه مجازا به. حتى قال رأس من رؤوسهم: أو يكون قرآن من [ ص: 411 ] لبد. وقال الآخر: من خشب، فراوغوا فقالوا: هذا حكاية عبر بها عن القرآن، والله تكلم مرة ولا يتكلم بعد ذلك، ثم قالوا: غير مخلوق، ومن قال مخلوق كافر، وهذا من فخوخهم يصطادون به قلوب عوام أهل السنة، وإنما اعتقادهم أن القرآن غير موجود، لفظية الجهمية الذكور بمرة، والجهمية الإناث بعشر مرات.

[ ص: 412 ] وأولئك قالوا: لا صفة، وهؤلاء يقولون وجه كما يقال: وجه النهار ووجه الأمر ووجه الحديث، وعين: كعين المتاع، وسمع: كأذن الجدار، وبصر كما يقال: جداران هما يتراءيان. ويد كيد المنة والعطية، والأصابع كقولهم: خراسان بين أصبعي الأمير، والقدمان كقولهم: جعلت الخصومة تحت قدمي، والقبضة كما قيل: فلان في قبضتي أي: أنا أملك أمره، وقال: الكرسي العلم، والعرش الملك، والضحك الرضى، والاستواء الاستيلاء، والنزول القبول، والهرولة مثله، شبهوا من وجه، وأنكروا من وجه، وخالفوا السلف، وتعدوا الظاهر، فردوا الأصل ولم يثبتوا شيئا، ولم يبقوا موجودا..

ولم يفرقوا بين التفسير والعبارة بالألسنة، فقالوا: لا نفسرها نجريها عربية، كما وردت وقد تأولوا تلك التأويلات الخبيثة، وأرادوا بهذه المخرقة، أن يكون عوام المسلمين أبعد غيابا عنها وأعيا ذهابا منها، ليكونوا أوحش عند ذكرها، وأشمس عند [ ص: 413 ] سماعها، وكذبوا، بل التفسير أن يقال: وجه، ثم لا يقال: كيف وليس كيف في هذا الباب من مقال المسلمين. فأما العبارة فقد قال الله تعالى: وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم [المائدة: 64] وإنما قالوها هم بالعبرانية فحكاها عنهم بالعربية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب كتابه بالعبرانية فيها أسماء الله وصفاته فيعبر بالألسنة عنها، ويكتب إليه بالسريانية فيعبر له زيد بن ثابت رضي الله عنه بالعربية، والله تعالى يدعى بكل لسان باسمه فيجيب، ويحلف بها فيلزم، وينشد فيجاز، ويوصف فيعرف.

التالي السابق


الخدمات العلمية