الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ونحن نذكر ما يحضر من إبطالها بالكلام على مقدماتها والمواضع التي ينازعه فيها الناس :

الأول: قوله : "لو كان جسما لكان له بعد وامتداد" فإن هذا مما نازعه فيه طائفة ممن يقول: هو جسم ، وهو مع ذلك واحد لا يقبل القسمة بوجه من الوجوه، فلا يشار إلى شيء منه دون شيء ، فإن هذا معروف عن طائفة من أهل الكلام من الكرامية وغيرهم. والرازي قد ذكر ذلك عن بعضهم، لكنه ادعى أن هذا القول لا يعقل ، وأن فساده معلوم بالضرورة .

وكذلك قول من قال: إنه فوق العرش، وإنه مع ذلك ليس بجسم ، كما يذكر ذلك عن الأشعري ، وكثير من أهل الكلام والحديث والفقه من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم ، وهو قول القاضي أبي يعلى وأبي الحسن الزاغوني ، وقول أبي الوفاء بن عقيل في كثير من كلامه ، وهو قول أبي العباس القلانسي ، وقبله أبو محمد بن كلاب وطوائف غير هؤلاء .

فإذا قال القائل : كونه جسما مع كون غير منقسم، أو كونه فوق العرش مع كونه غير جسم -مما يعلم فساده بضرورة العقل . [ ص: 210 ]

فيقال : ليس العلم بفساد هذا بأظهر من العلم بفساد قول من قال: إنه موجود قائم بنفسه، فاعل لجميع العالم ، وأنه مع ذلك لا داخل في العالم ولا خارج عنه، ولا حال فيه ولا مباين له، لا سيما إذا قيل مع ذلك: إنه حي عالم قادر، وقيل مع ذلك: ليس له حياة ولا علم ولا قدرة ، أو قيل : هو عاقل ومعقول وعقل ، وعاشق ومعشوق وعشق ، وأن العلم والحب نفس العالم المحب، ونفس الحب هو نفس العلم ، أو قيل مع ذلك: إنه حي بحياة ، عليم بعلم، قدير بقدرة ، سميع بسمع ، بصير ببصر ، متكلم بكلام. وقيل مع ذلك: إنه لا داخل في مخلوقاته ولا خارج عنها ، ولا حال فيها ولا مباين لها ، وأن إرادته لهذا المراد هو إرادته لهذا المراد ، ونفس رؤيته لهذا هو نفس رؤيته لهذا، ونفس علمه بهذا هو نفس علمه بهذا ، وأن الكلام معنى واحد بالعين، فمعنى آية الكرسي وآية الدين، وسائر القرآن والتوراة والإنجيل، وسائر ما تكلم به -هو شيء واحد، فإن كانت هذه الأقوال مما يمكن صحتها في العقل، فصحة قول من قال: هو فوق العرش وليس بجسم ، أو هو جسم وليس بمنقسم- أقرب إلى العقل .

وإن قيل : بل هذا القول باطل في العقل. فيقال: تلك أبطل في العقل، ومتى بطلت تلك صح هذا .

وإذا قيل: النافي لإمكان تلك الأمور هو الوهم [لا العقل]، [ ص: 211 ] وإلا فالعقل يجوز وجود ما ذكر. قيل : والنافي لإمكان هذا هو الوهم ، وإلا فالعقل يجوز وجود ما ذكر. وإذا قيل: البرهان العقلي دل على وجود ما أنكره الوهم . قيل: والبرهان العقلي دل على وجود ما أنكره الوهم هنا .

ومن تأمل هذا وجده من أصح المعارضة وأبين التناقض في كلام هؤلاء النفاة ، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع .

الوجه الثاني: قوله : "وإذا كان له بعد وامتداد ، فإما أن يكون غير متناه ، وإما أن يكون متناهيا" .

فيقال: من الناس من يقول: إنه غير متناه ، وهؤلاء منهم من يقول: جسم، ومنهم من يقول: غير جسم . وقد حكى القولين أبو الحسن الأشعري في "المقالات"، وحكاهما غيره أيضا . ومن الناس من قال: هو متناه من بعض الجهات ، وهذا مذكور عن طائفة من أهل الكلام من الكرامية وغيرهم، وقد قاله بعض المنتسبين إلى الطوائف الأربعة من الفقهاء ، كما ذكره القاضي أبو يعلى في "عيون المسائل"، فإن هذه الأقوال يوجد عامتها في بعض أتباع الأئمة: منها ما يوجد في بعض أصحاب أبي حنيفة، ومنها ما يوجد في بعض أصحاب مالك ، ومنها ما يوجد في بعض أصحاب الشافعي، ومنها ما يوجد في بعض أصحاب أحمد ، ومنها ما يوجد في بعض أصحاب اثنين أو ثلاثة أو الأربعة .

التالي السابق


الخدمات العلمية