الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
فهذا فيه مع إخباره أنهم يرونه إخبارهم أنه يرونه في جهة منهم من وجوه:

[ ص: 433 ] أحدها: أن الرؤية في لغتهم لا تعرف إلا لرؤية ما يكون بجهة منهم. فأما رؤية ما ليس في الجهة فهذا لم يكونوا يتصورونه ولا يعرفونه فضلا عن أن يكون اللفظ يدل عليه كما قد اعترف هو بذلك فيما تقدم.

وهو أيضا فإنك لست تجد أحدا من الناس يتصور وجود موجود في غير جهة فضلا عن أن يتصور أنه يرى، فضلا عن أن يكون اسم الرؤية المشهورة في اللغات كلها يدل على هذه الرؤية الخاصة.

الوجه الثاني: أنه قال: "فإنكم ترون ربكم كما ترون الشمس صحوا، وكما ترون القمر صحوا" فشبه لهم رؤيته برؤية الشمس والقمر، وليس ذلك تشبيها للمرئي بالمرئي، ومن المعلوم أنه إذا كانت رؤيته مثل رؤية الشمس والقمر وجب أن يرى في جهة من الرائي، كما أن رؤية الشمس والقمر كذلك، فإنه لو لم يكن كذلك لأخبرهم برؤية مطلقة نتأولها على ما يتأول من يقول بالرؤية في غير جهة، أما بعد أن يستفسرهم عن رؤية الشمس صحوا ورؤية البدر صحوا، ويقول: " إنكم ترون ربكم كذلك" فهذا لا يمكن أن يتأول على الرؤية التي يزعمونها، فإن هذا اللفظ لا يحتملها لا حقيقة ولا مجازا [ ص: 434 ]

الوجه الثالث: أنه قال: "هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب، وهل تضارون في القمر ليس دونه سحاب" فشبه رؤيته برؤية أظهر المرئيات إذا لم يكن ثم حجاب منفصل عن الرائي يحول بينه وبين المرئي. ومن يقول: إنه يرى في غير جهة يمتنع عنده أن يكون بينه وبين العباد حجاب منفصل عنهم، إذ الحجاب لا يكون إلا لجسم، ولما يكون في جهة، وهم يقولون: الحجاب عدم خلق الإدراك في العين، والنبي صلى الله عليه وسلم مثل رؤيته برؤية هذين النورين العظيمين إذا لم يكن دونهما حجاب.

الوجه الرابع: أنه أخبر أنهم " لا يضارون في رؤيته" وفي حديث آخر "لا يضامون" ونفي الضير والضيم أن ما يكون لإمكان لحوقه للرائي، ومعلوم أن ما يسمونه رؤية وهو رؤية ما ليس بجهة من الرائي لا فوقه ولا في شيء من جهاته لا يتصور فيها ضير ولا ضيم حتى ينفي ذلك بخلاف رؤية ما يواجه الرائي، ويكون فوقه فإنه قد يلحقه فيه ضيم وضير، إما بالازدحام عليه أو كلال البصر لخفائه: كالهلال، وإما لجلائه: كالشمس والقمر.

ومثل هذا الحديث المشهور حديث قيس بن أبي حازم [ ص: 435 ] عن جرير بن عبد الله البجلي قال: " كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر، قال إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا لا تضارون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، وقرأ: وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب وهذا لفظ البخاري في بعض طرقه، وفيه زيادة لفظ: " عيانا" وإلا فبقية ألفاظ الحديث مستفيضة في الصحيحين وغيرهما. وفي الصحيحين من حديث يحيى بن سعيد وثنا سعيد بن أبي عروبة، ثنا [ ص: 436 ] قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيلهمون ذلك، فيقولون: لو استشفعنا على ربنا فأراحنا من مكاننا هذا فيأتون آدم. فذكر الحديث إلى أن قالوا: ائتوا محمدا عبدا قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فيأتوني حتى أستأذن على ربي، فيؤذن لي، فإذا رأيت ربي وقعت أو خررت ساجدا لربي، فيدعني ما يشاء الله أن يدعني ثم يقال لي: ارفع محمد، قل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه الله، ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة، ثم أعود إليه الثانية، فإذا رأيت ربي عز وجل وقعت أو خررت ساجدا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال لي: ارفع رأسك، قل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه، ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة، ثم أعود إليه الثالثة، فإذا رأيت ربي وقعت أو خررت ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني. فذكر الحديث.

[ ص: 437 ] فكون الرائي - وهو النبي صلى الله عليه وسلم - يراه، والرائي في مكان ولا يراه، والرائي في مكان آخر، ويعود إلى ذلك المكان: دليل على أن المرئي يرى والرائي في مكان، ولا يرى إذا كان الرائي في مكان آخر، وهذا الاختصاص لا يكون إلا بما يكون بجهة من الرائي بخلاف ما يسمونه رؤية، فإنها من جنس العلم لا اختصاص لها بكون الرائي في مكان دون مكان.

وأيضا ففي الصحيحين عن أبي عمران الجوني عن أبي [ ص: 438 ] بكر بن عبد الله بن قيس وهو ابن أبي موسى الأشعري - عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن".

فأخبر أنه لا يمنعهم من النظر إلا ما على وجهه رداء الكبرياء. ومن يقول: إنه يرى لا في جهة عنده ليس المانع إلا كون الرؤية لم تخلق في عينه، لا يتصور عنده أن يحجب الرائي شيء منفصل عنه أصلا، سواء فسر رداء الكبرياء بصفة من صفات الرب أو بحجاب منفصل عن الرب. فعلى التقديرين لا يتصور عند هؤلاء أن يكون ذلك مانعا من الرؤية ولا يمنع من رؤية الله عندهم إلا ما يكون في نفس الرائي. وكذلك قوله: في جنة عدن سواء كانت ظرفا له أو للرداء فعلى التقديرين [ ص: 439 ] يخالف مذهب هؤلاء.

وأيضا ففي صحيح مسلم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا دخل أهل الجنة الجنة، نودوا: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه، قال: فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا ويزحزحنا عن النار ويدخلنا الجنة؟ قال: فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئا هو أحب إليهم مما هو فيه، ثم قرأ: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة [يونس: 26] فأخبر أنه [ ص: 440 ] يكشف الحجاب فينظرون إليه.

التالي السابق


الخدمات العلمية