الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن أعجب الأشياء أن هذا الآمدي لما تكلم على مسألة: هل وجوده زائد على ذاته أم لا؟ ذكر:"حجة من قال: لا يزيد وجوده على ذاته"فقال : "احتجوا بأنه لو كان زائدا على ذاته لم يخل: إما أن يكون واجبا أو ممكنا، لا جائز أن يكون واجبا لأنه مفتقر إلى الذات، ضرورة كونه صفة لها ، ولا شيء من المفتقر إلى غيره يكون واجبا ، فإذا وجوده لو كان زائدا على ذاته لما كان واجبا، ، فلم يبق إلا أن يكون ممكنا ، وإذا كان ممكنا فلا بد له من مؤثر ، والمؤثر فيه إما الذات أو خارج عنها ، والأول ممتنع ، لأنه يستلزم كون الذات قابلة وفاعلة ، ولأن المؤثر في الوجود لا بد أن يكون موجودا ، فتأثيرها في وجودها يفتقر إلى وجودها ، فالوجود مفتقر إلى [ ص: 238 ] نفسه ، وهو محال. وإن كان المؤثر غيرها ، كان الوجود الواجب مستفادا له من غيره، فلا يكون الوجود واجبا بنفسه" .

ثم قال:"وهذه الحجة ضعيفة، إذ لقائل أن يقول:ما المانع من كون الوجود الزائد على الماهية واجبا لنفسه.قولكم: لأنه مفتقر إلى الماهية ، والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا لنفسه، قلنا: لا نسلم أن الواجب لنفسه لا يكون مفتقرا إلى غيره ، بل الواجب لنفسه هو الذي لا يكون مفتقرا إلى مؤثر فاعل ، ولا يمتنع أن يكون موجبا بنفسه ، وإن كان مفتقرا إلى القابل ، فإن الفاعل الموجب بالذات لا يمتنع توقف تأثيره على القابل، وسواء كان اقتضاؤه بالذات لنفسه ، أو لما هو خارج عنه ، وهذا كما يقوله الفيلسوف في [ ص: 239 ] العقل الفعال بأنه موجب بذاته للصور الجوهرية والأنفس الإنسانية، وإن كان ما اقتضاه لذاته متوقفا على وجود الهيولى القابلة" .

قال :"وإن سلمنا أنه لا بد وأن يكون ممكنا ، ولكن لا نسلم أن حقيقة الممكن هو المفتقر إلى المؤثر ، بل الممكن هو المفتقر إلى الغير ، والافتقار إلى الغير أعممن الافتقار إلى المؤثر ، وقد تحقق ذلك بالافتقار إلى الذات القابلة" .

فيقال:"ففي هذا الكلام جوز أن يكون الوجود الواجب مفتقرا إلى الماهية ، وذكر أن الواجب بنفسه هو الذي لا يفتقر إلى المؤثر، ليس هو الذي لا يفتقر إلى الغير ، وأن كونه ممكنا -بمعنى افتقاره إلى الغير لا إلى المؤثر- هو الإمكان الذي يوصف به الوجود الواجب المفتقر إلى الماهية .

وهذا الذي قاله هو بعينه يقال له فيما ذكره هنا حيث قال:"إن المجموع مفتقر إلى كل من أجزائه ، والمفتقر إلى الغير لا يكون واجبا بنفسه لأنه ممكن" . [ ص: 240 ]

فيقال له : لا نسلم أن المفتقر إلى الغير على الإطلاق لا يكون واجبا بنفسه ، بل المفتقر إلى المؤثر لا يكون واجبا بنفسه، وافتقار المجموع إلى كل من أجزائه ليس افتقارا إلى مؤثر بل إلى الغير، كافتقار الوجود إلى الماهية إذا فرض تعددها .

ويقال : قولك "إن المجموع يكون ممكنا"أتعني بالممكن ما يفتقر إلى مؤثر؟ أم ما يفتقر إلى الغير ؟

فإن قلت الأول كان باطلا ، وإن قلت الثاني ، فلم قلت إن الواجب بنفسه الذي لا يفتقر إلى فاعل لا يكون ممكنا، بمعنى أنه يفتقر إلى غير لا إلى فاعل ؟

فهذا الكلام الذي ذكره هو بعينه يجيب به نفسه عما ذكره هنا بطريق الأولى والأحرى ، فإن توقف المجموع الواجب بأجزائه على كل من أجزائه لا ينفي وجوبه بنفسه ، التي هي المجموع مع الأجزاء. أما توقف الوجود على الماهية المغايرة له ، فإنه يقتضي توقف الوجود الواجب على ما ليس داخلا فيه . [ ص: 241 ]

ومعلوم أن افتقار الشيء إلى جزئه ليس هو كافتقاره إلى ما ليس جزأه ، بل الأول لا ينفي كمال وجوبه ، إذ كان افتقاره إلى جزئه ليس أعظم من افتقاره إلى نفسه ، والواجب بنفسه لا يستغني عن نفسه ، فلا يستغني عما هو داخل في مسمى نفسه . أما إذا قدر وجود واجب وماهية مغايرة له ، كان الواجب مفتقرا إلى ما ليس داخلا في مسمى اسمه، فمن جوز ذاك كيف يمنع هذا ؟

ولهذا كان قول مثبتة الصفات خيرا من قول أبي هاشم وأمثاله من المعتزلة وأتباعهم، الذين قالوا : إن وجود كل موجود في الخارج مغاير لذاته الموجودة في الخارج ، وأن وجود واجب الوجود زائد على ماهيته، وإن كان قد وافقه على ذلك طائفة من أهل الإثبات في إثناء كلامهم، حتى من أصحاب الأئمة الأربعة [أحمد] وغيره، كابن الزاغوني، وهو أحد قولي الرازي ، بل هو الذي رجحه في أكثر كتبه، وكذلك أبو حامد .

فإبطال مثل هذا التركيب أولى من إبطال ذاك ، وأدنى الأحوال أن يكون مثله ، فإن من قال : إن الوجود زائد على الماهية، [ ص: 242 ] لزمه أن يجعل الماهية قابلة للوجود ، والوجود صفة لها ، فيجعل الوجود الواجب صفة لغيره ، والصفة مفتقرة إلى محلها ، وهذا الافتقار أقرب إلى أن تكون الصفة ممكنة ، من افتقار الجميع إلى جزئه ، فإن افتقار الجميع إلى نفسه لا ينافي وجوبه بنفسه ، فكيف افتقاره إلى صفته اللازمة له، وإلى ما يقدر أنه جزؤه الذي لا يوجد إلا في ضمن نفسه ؟ وأما افتقار الصفة إلى الموصوف فأدل على إمكان الصفة بنفسها ، فإذا كان الوجود الواجب لا يمتنع أن يكون صفة لماهية، فكيف يمتنع أن يكون مجموعا ؟

التالي السابق


الخدمات العلمية