الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
كما قال عبد العزيز بن يحيى الكناني المشهور، صاحب الشافعي، صاحب «الحيدة» في كتاب «الرد على الزنادقة والجهمية»: «باب قول الجهمي في قوله تعالى: الرحمن على العرش استوى [طه: 5]. زعمت الجهمية أن قول الله تعالى: الرحمن على العرش استوى [طه: 5] إنما المعنى: استولى، كقول العرب: استوى فلان على مصر، استوى فلان على الشام، يريد: استولى عليها. فإن البيان لذلك بأن يقال له: هل يكون [ ص: 31 ] خلق من خلق الله تعالى، أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه؟ فإذا قال: لا. قيل له: فمن زعم ذلك فهو كافر، يقال له: يلزمك أن تقول: العرش قد أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه، ذلك أن الله تعالى أخبر أنه خلق العرش قبل خلق السموات والأرض، قال الله عز وجل: وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء [هود: 7] ، فأخبر أن العرش كان على الماء قبل خلق السموات والأرض، ثم خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش، الرحمن فاسأل به خبيرا، وقوله تعالى: الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم [غافر: 7] وقوله تعالى: ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم [البقرة: 29] ، وقوله تعالى: ثم استوى إلى السماء وهي دخان [فصلت: 11] ، فأخبر أنه استوى على العرش، فيلزمك أن تقول: المدة التي كان العرش فيها قبل خلق السموات والأرض ليس الله بمستول عليه، إذ كان استوى على العرش معناه عندك: استولى، فإنما استوى بزعمه في ذلك الوقت لا قبله.

وقد روى عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اقبلوا [ ص: 32 ] البشرى يا بني تميم» قالوا: قد بشرتنا فأعطنا، قال: «اقبلوا البشرى يا أهل اليمن» قالوا: قد قبلنا، فأخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان؟ قال: «كان الله قبل كل شيء، وكان عرشه على الماء، وكتب في اللوح ذكر كل شيء». وروي عن أبي رزين العقيلي وكان يعجب النبي صلى الله عليه وسلم مسألته أنه قال: يا رسول الله أين كان الله ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال: «كان في عماء، فوقه هواء وتحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء». فقال، يعني الجهمي: أخبرني كيف استوى على [ ص: 33 ] العرش؟ أهو كما يقال: استوى فلان على السرير، فيكون السرير قد حوى فلانا وحده، إذا كان عليه، فيلزمك أن تقول: إن العرش قد حوى الله وحده إذا كان عليه، لأنا لا نعقل الشيء على الشيء إلا هكذا.

باب البيان لذلك. يقال له: أما قولك كيف استوى؟ فإن الله لا يجري عليه كيف، وقد أخبرنا أنه استوى على العرش، ولم يخبرنا كيف استوى، فوجب على المؤمنين أن يصدقوا ربهم باستوائه على العرش، وحرم عليهم أن يصفوا كيف استوى، لأنه لم يخبرهم كيف ذلك، ولم تره العيون في الدنيا فتصفه بما رأت، وحرم عليهم أن يقولوا عليه من حيث لا يعلمون، فآمنوا [ ص: 34 ] بخبره عن الاستواء، ثم ردوا علم كيف استواؤه إلى الله، ولكن لزمك أيها الجهمي أن تقول: إن الله عز وجل محدود، وقد حوته الأماكن إذا زعمت في دعواك أنه في الأماكن، لأنه لا يعقل شيء في مكان إلا والمكان قد حواه، كما تقول العرب: فلان في البيت، والماء في الجب، والبيت قد حوى فلانا والجب قد حوى الماء.

ويلزمك أشنع من ذلك، لأنك قلت أفظع مما قالت النصارى، وذلك أنهم قالوا: إن الله عز وجل حل في عيسى، وعيسى بدن إنسان واحد، فكفروا بذلك وقيل لهم: ما أعظم الله تعالى إذ جعلتموه في بطن مريم! وأنتم تقولون: إنه في كل مكان، وفي بطون النساء كلها، وبدن عيسى، وأبدان الناس [ ص: 35 ] كلهم، ويلزمك أيضا أن تقول: إنه في أجواف الكلاب والخنازير، لأنها أماكن، وعندك أنه في كل مكان تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا! فلما شنعت مقالته قال: أقول إن الله في كل مكان لا كالشيء في الشيء، ولا كالشيء على الشيء، ولا كالشيء خارجا عن الشيء ولا مباينا للشيء.

باب البيان لذلك: يقال له: أصل قولك القياس والمعقول، فقد دللت بالقياس والمعقول، على أنك لا تعبد شيئا، لأنه لو كان شيئا ما خلا في القياس والمعقول، أن يكون داخلا في الشيء أو خارجا منه، فلما لم يكن في قولك شيء، استحال أن يكون كالشيء في الشيء، أو خارجا من الشيء، فوصفت شيئا لا وجود له; وهو دينك وأصل مقالتك التعطيل».

التالي السابق


الخدمات العلمية