الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1859 باب صيام يوم عاشوراء

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  أي هذا باب في بيان حكم صوم يوم عاشوراء ، والكلام فيه على أنواع :

                                                                                                                                                                                  الأول : في بيان اشتقاق عاشوراء ووزنه ، فاشتقاقه من العشر الذي هو اسم للعدد المعين ، وقال القرطبي : عاشوراء معدول عن عاشرة للمبالغة والتعظيم ، وهو في الأصل صفة لليلة العاشرة ؛ لأنه مأخوذ من العشر الذي هو اسم الفعل ، واليوم مضاف إليها ، فإذا قيل : يوم عاشوراء ، فكأنه قيل : يوم الليلة العاشرة ، إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبت عليها الاسمية ، فاستغنوا عن الموصوف فحذفوا الليلة ، وقيل : هو مأخوذ من العشر بالكسر في أوراد الإبل تقول العرب : وردت الإبل عشرا إذا وردت اليوم التاسع ، وذلك لأنهم يحسبون في الإظماء يوم الورد ، فإذا قامت في الرعي يومين ، ثم وردت في الثالثة قالوا : وردت ربعا ، وإن رعت ثلاثا ، وفي الرابع وردت خمسا ؛ لأنهم حسبوا في كل هذا بقية اليوم الذي وردت فيه قبل الرعي ، وأول اليوم الذي ترد فيه بعده ، وعلى هذا القول يكون التاسع عاشوراء ، وأما وزنه ففاعولاء .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 117 ] قال أبو منصور اللغوي : عاشوراء ممدود ، ولم يجئ فاعولاء في كلام العرب إلا عاشوراء ، والضاروراء اسم الضراء ، والساروراء اسم للسراء ، والدالولاء اسم للدالة ، وخابوراء اسم موضع ، وقال الجوهري : يوم عاشوراء وعاسوراء ممدودان ، وفي ( تثقيف اللسان ) للحميري ، عن أبي عمرو الشيباني : عاشورا بالقصر ، وروي عن أبي عمر قال : ذكر سيبويه فيه القصر ، والمد بالهمز ، وأهل الحديث تركوه على القصر ، وقال الخليل : بنوه على فاعولاء ممدودا ؛ لأنها كلمة عبرانية ، وفي ( الجمهرة ) : هو اسم إسلامي لا يعرف في الجاهلية ؛ لأنه لا يعرف في كلامهم فاعولاء ، ورد على هذا بأن الشارع نطق به ، وكذلك أصحابه قالوا بأن عاشوراء كان يسمى في الجاهلية ، ولا يعرف إلا بهذا الاسم .

                                                                                                                                                                                  النوع الثاني : اختلفوا فيه في أي يوم ، فقال الخليل : هو اليوم العاشر : والاشتقاق يدل عليه ، وهو مذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، فممن ذهب إليه من الصحابة عائشة ، ومن التابعين : سعيد بن المسيب ، والحسن البصري ، ومن الأئمة : مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأصحابهم ، وذهب ابن عباس إلى أن عاشوراء هو اليوم التاسع ، وفي ( المصنف ) عن الضحاك : عاشوراء اليوم التاسع ، وفي ( الأحكام ) لابن بزيزة : اختلف الصحابة فيه هل هو اليوم التاسع أو اليوم العاشر أو اليوم الحادي عشر ، وفي ( تفسير أبي الليث السمرقندي ) : عاشوراء يوم الحادي عشر ، وكذا ذكره المحب الطبري ، واستحب قوم صيام اليومين جميعا روي ذلك عن أبي رافع صاحب أبي هريرة ، وابن سيرين ، وبه يقول الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وروي عن ابن عباس أنه كان يصوم اليومين خوفا أن يفوته ، وكان يصومه في السفر ، وفعله ابن شهاب ، وصام أبو إسحاق عاشوراء ثلاثة أيام يوما قبله ويوما بعده في طريق مكة ، وقال : إنما أصوم قبله وبعده كراهية أن يفوتني ، وكذا روي عن ابن عباس أيضا أنه قال : صوموا قبله يوما وبعده يوما ، وخالفوا اليهود . وفي ( المحيط ) : وكره إفراد يوم عاشوراء بالصوم لأجل التشبه باليهود ، وفي ( البدائع ) : وكره بعضهم إفراده بالصوم ، ولم يكرهه عامتهم ؛ لأنه من الأيام الفاضلة ، وقال الترمذي : باب ما جاء في يوم عاشوراء أي يوم هو : حدثنا هناد ، وأبو كريب قالا : حدثنا وكيع ، عن حاجب بن عمر ، عن الحكم بن الأعرج قال : انتهيت إلى ابن عباس ، وهو متوسد رداءه في زمزم ، فقلت : أخبرني عن يوم عاشوراء أي يوم أصومه ؟ فقال : إذا رأيت هلال المحرم فاعدد ، ثم أصبح من اليوم التاسع صائما ، قلت : أهكذا كان يصومه محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم .

                                                                                                                                                                                  حدثنا قتيبة ، حدثنا عبد الوارث ، عن يونس ، عن الحسن ، عن ابن عباس قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم يوم عاشوراء اليوم العاشر . قال أبو عيسى : حديث ابن عباس حديث حسن صحيح .

                                                                                                                                                                                  قلت : حديث ابن عباس الأول رواه مسلم ، وأبو داود ، والثاني انفرد به الترمذي ، وهو منقطع بين الحسن البصري وابن عباس ، فإنه لم يسمع منه ، وقول الترمذي : حديث حسن صحيح - لم يوضح مراده أي حديثي ابن عباس أراد ، وقد فهم أصحاب الأطراف أنه أراد تصحيح حديثه الأول ، فذكروا كلامه هذا عقيب حديثه الأول ، فتبين أن الحديث الثاني منقطع وشاذ أيضا لمخالفته للحديث الصحيح المتقدم .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : هذا الحديث الصحيح يقتضي بظاهره أن عاشوراء هو التاسع ؟

                                                                                                                                                                                  قلت : أراد ابن عباس من قوله ( فإذا أصبحت من تاسعه فأصبح صائما ) أي : صم التاسع مع العاشر ، وأراد بقوله ( نعم ) ما روي من عزمه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على صوم التاسع من قوله ( لأصومن التاسع ) . وقال القاضي : ولعل ذلك على طريق الجمع مع العاشر ؛ لئلا يتشبه باليهود كما ورد في رواية أخرى : فصوموا التاسع والعاشر . وذكر رزين هذه الرواية ، عن عطاء عنه ، وقيل : معنى قول ابن عباس : نعم ، أي : نعم يصوم التاسع لو عاش إلى العام المقبل . وقال أبو عمر : وهذا دليل على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يصوم العاشر إلى أن مات ، ولم يزل يصومه حتى قدم المدينة ، وذلك محفوظ من حديث ابن عباس ، والآثار في هذا الباب عن ابن عباس مضطربة .

                                                                                                                                                                                  النوع الثالث : لم سمي اليوم العاشر عاشوراء ، اختلفوا فيه ؟ فقيل : لأنه عاشر المحرم ، وهذا ظاهر ، وقيل : لأن الله تعالى أكرم فيه عشرة من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعشر كرامات : الأول : موسى عليه السلام ، فإنه نصر فيه ، وفلق البحر له ، وغرق فرعون وجنوده .

                                                                                                                                                                                  الثاني : نوح عليه السلام استوت سفينته على الجودي فيه .

                                                                                                                                                                                  الثالث : يونس عليه السلام [ ص: 118 ] أنجي فيه من بطن الحوت .

                                                                                                                                                                                  الرابع : فيه تاب الله على آدم عليه السلام ، قاله عكرمة .

                                                                                                                                                                                  الخامس : يوسف عليه السلام ، فإنه أخرج من الجب فيه .

                                                                                                                                                                                  السادس : عيسى عليه السلام ، فإنه ولد فيه ، وفيه رفع.

                                                                                                                                                                                  السابع : داود عليه السلام فيه تاب الله عليه .

                                                                                                                                                                                  الثامن : إبراهيم عليه السلام ، ولد فيه .

                                                                                                                                                                                  التاسع : يعقوب عليه السلام فيه رد بصره .

                                                                                                                                                                                  العاشر : نبينا محمد - صلى الله تعالى عليه وسلم - فيه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر .

                                                                                                                                                                                  هكذا ذكروا عشرة من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .

                                                                                                                                                                                  قلت : ذكر بعضهم من العشرة إدريس عليه السلام ، فإنه رفع إلى مكان في السماء ، وأيوب عليه السلام فيه كشف الله ضره ، وسليمان عليه السلام فيه أعطي الملك .

                                                                                                                                                                                  النوع الرابع : اتفق العلماء على أن صوم يوم عاشوراء سنة ، وليس بواجب ، واختلفوا في حكمه أول الإسلام ، فقال أبو حنيفة : كان واجبا ، واختلف أصحاب الشافعي على وجهين : أشهرهما أنه لم يزل سنة من حين شرع ، ولم يك واجبا قط في هذه الأمة ، ولكنه كان يتأكد الاستحباب ، فلما نزل صوم رمضان صار مستحبا دون ذلك الاستحباب ، والثاني : كان واجبا كقول أبي حنيفة ، وقال عياض : كان بعض السلف يقول : كان فرضا ، وهو باق على فرضيته لم ينسخ ، قال : وانقرض القائلون بهذا ، وحصل الإجماع على أنه ليس بفرض إنما هو مستحب .

                                                                                                                                                                                  النوع الخامس : في فضل صومه .

                                                                                                                                                                                  وروى الترمذي من حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : صيام يوم عاشوراء إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله . ورواه مسلم ، وابن ماجه أيضا .

                                                                                                                                                                                  وروى ابن أبي شيبة بسند جيد ، عن أبي هريرة يرفعه : يوم عاشوراء تصومه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فصوموه أنتم . وفي ( كتاب الصيام ) للقاضي يوسف : قال ابن عباس : ليس ليوم فضل على يوم في الصيام إلا شهر رمضان أو يوم عاشوراء .

                                                                                                                                                                                  وروى الترمذي من حديث علي رضي الله تعالى عنه ، سأل رجل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : أي شيء تأمرني أن أصوم بعد رمضان ؟ قال : صم المحرم ، فإنه شهر الله ، وفيه يوم تاب فيه على قوم ، ويتوب فيه على قوم آخرين . وقال : حسن غريب .

                                                                                                                                                                                  وعند النقاش في ( كتاب عاشوراء ) : من صام عاشوراء فكأنما صام الدهر كله ، وقام ليله . وفي لفظ : من صامه يحتسب له بألف سنة من سني الآخرة .

                                                                                                                                                                                  النوع السادس : ما ورد في صلاة ليلة عاشوراء ، ويوم عاشوراء ، وفي فضل الكحل يوم عاشوراء لا يصح ، ومن ذلك حديث جويبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس رفعه : من اكتحل بالإثمد يوم عاشوراء لم يرمد أبدا . وهو حديث موضوع . وضعه قتلة الحسين رضي الله تعالى عنه . وقال الإمام أحمد : والاكتحال يوم عاشوراء لم يرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أثر ، وهو بدعة ، وفي ( التوضيح : ، ومن أغرب ما روي فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الصرد : إنه أول طائر صام عاشوراء . وهذا من قلة الفهم ، فإن الطائر لا يوصف بالصوم . قال الحاكم : وضعه قتلة الحسين رضي الله تعالى عنه .

                                                                                                                                                                                  قلت : إطلاق الصوم للطائر ليس بوجه الصوم الشرعي حتى ينسب قائله إلى قلة الفهم ، وإنما غرضه أن الطائر أيضا يمسك عن الأكل يوم عاشوراء تعظيما له ، وذلك بإلهام من الله تعالى ، فيدل ذلك على فضله بهذا الوجه .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية