الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم

                                                          إن الوثنيين تحكمهم أوهام باطلة يتوهمونها، وتسيطر عليهم أهواء ينسبونها إلى أوثانهم الذي سماهم الله شركاءهم، أي: الشركاء التي زعموها شريكة لله تعالى في عبادته سبحانه.

                                                          وكما موهوا عليهم فأرادوا تحت سلطان الوهم أن يجعلوا من الحرث والنسل نصيبا لله، ونصيبا لشركائهم كذلك زين لهم شركاؤهم أي: أوثانهم في أوهامهم قتل أولادهم.

                                                          (زينوا) أي: حسنوا وجعلوه كأنهم زينة لهم، يتباهون بها، شركاؤهم ونقول في معنى الشركاء: أهم الأوثان أم شياطين الجن الذين تغلغلوا في [ ص: 2689 ] نفوسهم، وشاركوهم في إرادتهم; إن قلنا إنهم شياطين الجن الذين وسوسوا لهم، وزينوا لهم قتل أولادهم. كما زينوا لهم أن يجعلوا لله نصيبا مما ذرأ من الحرث والأنعام، فالآيات تسير من غير تأويل لظاهرها.

                                                          وإن قلنا: إن الشركاء هي الأوثان التي جعلوها شركاء لله تعالى في عبادته فإنها أحجار فكيف تحسن أو تزين، وهي لا تعقل، ولا تتكلم، ولا تضر ولا تنفع، ونقول: إن أوهامهم نحوها من أنها تضر وتنفع وأنهم يريدون إرضاءها، وقد توهموا أنها تطالبهم بذلك، فإن هذا يكون هو التزيين، فوهمهم نحوها هو الذي زين لهم قتل أولادهم، وقدم (قتل) وهو المفعول على الفاعل وهم (شركاؤهم) لأنه أبلغ في التشنيع، والقتل هو الأمر الذي لا يبرر.

                                                          وقال تعالى: لكثير من المشركين قتل أولادهم فعبر سبحانه بقوله: لكثير من المشركين فلم ينسب إلى كلهم، بل نسب سبحانه إلى كثير منهم، وذلك إنصاف القرآن الكريم في حكاية أفعال العباد، وقتل الأولاد كان عند كثيرين منهم، وقد نص القرآن الكريم من شناعتهم في ذلك في الكثير من آياته، ومنها قوله تعالى: وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون

                                                          وقال تعالى: وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت

                                                          وكان بعضهم إذا وصل أبناؤه عددا من الأبناء نذر قتل أحدهم، كما يروى عن عبد المطلب أنه نذر إذا وصل عدد أبنائه إلى عشرة قتل واحدا منهم، فكانت القرعة على عبد الله أبي النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

                                                          وكان منهم من يقتل أولاده من إملاق أو خشيته، كما قال تعالى: ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم وقال تعالى: ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم

                                                          [ ص: 2690 ] فالذين يدعون إلى منع النسل الآن خشية الإنفاق أو للإملاق يدعون بدعوة الجاهلية لعنهم الله وأخزاهم.

                                                          وقد ذكر الله تعالى ما توسوس به الأنفس، - والأوهام المسيطرة، ونهاية ما تؤدي إليه فقال سبحانه:

                                                          ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم

                                                          (اللام) للتعليل أو ما يسمونها لام كي، وهي مع كونها تعليلا هي بيان نتيجة قتل أولادهم، ذلك أن النتيجة أن يوقعوهم في الردى هو الهلاك، فمآل قتل الأولاد سواء أكان بالوأد، أم كان بالقتل خشية الفقر، أو للفقر، وقد يكون ذلك بالعمل على منع النسل، بالعزل أو نحوه، مما سماه النبي -صلى الله عليه وسلم- "الوأد الخفي" فإن ذلك يؤدي إلى منع نسل الأمة، ومنع نسل الأمة هلاك لها، وفناء تدريجي لقوتها، فالولد قوة، والعرب يعتزون بكثرة النفر.

                                                          وقال تعالى: وليلبسوا عليهم دينهم أي: ليخلطوا دين إسماعيل الذي كان الحنفية كدين أبيه إبراهيم، بأوهام كاذبة، وبذلك يفسدونه، وقد أفسدوه بالشرك، وأفسدوه أيضا أن أدخلوا فيه ما ليس من الدين ولا بأمر من الله ونهيه، كما فعلوا في جعل نصيب الله تعالى مما ذرأ من الحرث والأنعام، ومن قتل الأولاد، فإن هذا خلط ما ليس بالأصل الديني، وبذلك ضلوا سواء السبيل.

                                                          ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون

                                                          إن الله سبحانه وتعالى قدر لهم الضلالة إذا ستروها، وتركوا الهداية، وسلكوا سبيلها فاختارها الله تعالى لهم، بعد أن اختاروها لأنفسهم، وإن الله لا يظلم الناس شيئا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، وإذا كان الله تعالى قد كتب عليهم ذلك، فعن مشيئته صدر فعلهم، ولو شاء ألا يفعلوه ما فعلوه، ولكنه شاء [ ص: 2691 ] لهم; لأنهم اختاروه. وإذا كان تعالى قد شاءه لهم فقد افتروه، وقد أنذرت، وما عليك جناح إذا استمروا على غيهم فذرهم أي: فاتركهم مع ما يفترونه، يرتعون في غيه، وما أنت إلا نذير.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية