الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
الوجه الخامس عشر: أن هذا القول الذي حكيته عن الحنابلة -مع أنك لم تؤد الأمانة في نقله، بل نقلته بلفظ لا يطلقونه، بحيث يفهم المستمع معان لم يقصدوها، ويوجب أن يعتقد في مذهب القوم ما لا يعتقدونه- لم تذكر عنهم تناقضا فيه، كما ذكرته عن الكرامية، ولا ذكرت أنهم خالفوا لا المحسوس ولا المعقول، كما ذكرته عن الكرامية، ولا ذكرت أنهم أثبتوا شيئا يعلم بالحس أو بالعقل بطلانه، كما ذكرته عن الكرامية، ولا وصفت به قولهم من مخالفة البديهة العقلية. وهذا الذي [ ص: 288 ] ذكرته هو الواقع، فإن أحدا من العقلاء لم نعلمه ادعى أن فساد هذا القول معلوم بالضرورة العقلية -كما يقولونه في قولك، والقول الذي ذكرته عن الكرامية- بل غايتهم أن يدعوا أنه معلوم الفساد بدقيق النظر. ثم كل طائفة يثبتون فساد الطريق التي نفت بها الأخرى ذلك، وهذا يبين أنه ليس عند العقلاء في ذلك دليل يبقى عليه، بل ذكرت أنهم مع هذا الإثبات يقولون: «بأن ذات البارئ لا تماثل الذوات» وهذا حق لا ريب فيه. فما ذكرته هو تقرير لهذا القول ومدح له، وليس فيه ما يكون إلزاما لك عليهم، ولا ما يقتضي تناقضا فيه، فإن إثبات موجود ليس مماثلا لغيره من الموجودات، لا يخالف حسا ولا عقلا، وهذا هو الذي تقدم ذكرنا له أن قوله: «لا بد من الاعتراف بوجود موجود على خلاف الحس والخيال» أنه إذا أراد بذلك أنه لا يماثل المحسوسات، فلا فرق في ذلك بين المحسوسات والمعقولات وغيرها; فإنه لا يماثل شيئا من الأشياء المخلوقة بوجه من الوجوه، سواء سميت حسيات أو متخيلات أو عقليات، أو سميت جسمانيات أو روحانيات. فإذن ما تثبته من نفي المماثلة، لا يدل على ما قصدته من إثبات شيء على خلاف حكم الحس والخيال، دون حكم العقل، أو نفي التماثل، لا فرق بين جميع المدركات بجميع أنواع الإدراكات. [ ص: 289 ]

وقد ذكرنا فيما تقدم، أن نفي المماثلة بين الخالق والمخلوق، مما علم بالشرع والعقل، وذلك لا يقتضي إثبات ما يعلم بالبديهة انتفاؤه، أو إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه، فهو أيضا يقتضي انتفاء مماثلة الخالق للمخلوق، كما بيناه فيما تقدم; إذ التماثل يقتضي أن يجوز ويجب ويمتنع لكل منهما، ما يجوز ويجب ويمتنع للآخر، فيلزم أن يكون الشيء الواحد خالقا مخلوقا، قديما محدثا، موجودا معدوما، واجبا ممكنا، قادرا عاجزا، عالما جاهلا، غنيا فقيرا، حيا ميتا; ولهذا كان هذا مذهب السلف قاطبة، يثبتون هذه الصفات الخبرية، وينفون التمثيل، وكانوا ينكرون على المشبهة، الذين يمثلون الله بخلقه، وهم على الجهمية، الذين ينكرونه أعظم نكيرا، وأشد تضليلا وتكفيرا، وكلامهم في ذلك أكثر وأكبر.

وأما لفظ «الجسم» و«الجوهر» و«المتحيز» و«المركب» و«المنقسم» فلا يوجد له ذكر في كلام أحد من السلف، كما لا يوجد له ذكر في الكتاب والسنة لا بنفي ولا إثبات، إلا بالإنكار على الخائضين في ذلك من النفاة، الذين نفوا ما جاءت به [ ص: 290 ] النصوص، والمشبهة الذين ردوا ما نفته النصوص.

التالي السابق


الخدمات العلمية