الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين

                                                          ساقوا كلاما كثيرا في تبرئة أنفسهم من ذنب شركهم، وتحريمهم بعض ما أحل الله، وطولبوا بالحجة، فلم يجدوا عندهم ما يستدلون به، وتحداهم رب البرية أن يأتوا بعلم أي علم، وقد بهت أولئك الكفار، بما طلب إليهم أن يأتوا به، وفي هذه الآية الكريمة يبين الله أن عنده الحجة البالغة؛ أي التي تبلغ بصاحبها أقصى الحق والاستدلال، ف: (بالغة) معناها مبلغة صاحبها أقوى الأدلة، كقول الله تعالى: عيشة راضية أي: مرضي بها، أو مرضية، وإن استعمال المشتقات بعضها مكان بعض هو من أبلغ البيان العربي.

                                                          [ ص: 2722 ] قوله تعالى: قل فلله الحجة البالغة الخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم-، والفاء للإفصاح عن شرط مقدر، المعنى: إذا لم يكن عندكم من علم أي علم بما تدعون، فالله تعالى عنده الحجة البالغة الموصلة للحق الهادية إليه.

                                                          وتلك الحجة البالغة هي هذا الخلق والتكوين والإنشاء وتوليد الأحياء بعضها من بعض، فكل هذا يدل على الخالق الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، وليس كمثله شيء وهو السميع العليم، ولو كان معه آلهة كما يقولون لفسدت السماوات والأرض، وهكذا كل ما في الوجود يدل على أنه واحد سبحانه وتعالى، وأنتم معشر العرب تقرون أنه الخالق وحده ليس كمثله شيء، ولكن مع هذه الحجة التي لا يمتري فيها عاقل، وتقرون بها تشركون معه غيره في العبادة والألوهية، فضلت عقولكم، ولم ترتبوا على المعلوم نتيجته، بل حكمتكم من بعد ذلك الأوهام وسيطرت. وتلك مشيئة الله تعالى.

                                                          فلو شاء لهداكم أجمعين أي أن الله تعالى شاء لكم الضلالة لأنكم اخترتموها وسرتم في طريقها بإرادتكم المختارة، فوصلتم إلى الضلال.

                                                          وهم في قولهم معتذرين مبطلين: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء قد حسبوا أن مشيئة الله تستلزم رضاه، كما فهم بعض الفرق الإسلامية من بعد، ولذا قالوا ما قالوا، والحق أن المشيئة لا تستلزم الرضا، إنما الأمر هو الذي يستلزم الرضا، والنهي يستلزم الغضب، فالهداية هي التي تستلزم الرضا; ولذا قال تعالى: فلو شاء لهداكم أجمعين

                                                          أي: أن كل شيء في الوجود تحت سلطانه وإرادته، وهو لو أراد أن تكونوا جميعا على هدى لكان ذلك، ولكنتم جميعا في أعمالكم في رضوان الله تعالى.

                                                          وإنما أراد أن يكون منكم المهديون الدعاة إلى الحق، المؤمنون به، وأراد منكم من يكون على غير ذلك ليتم الابتلاء والاختبار، وهذا قوله تعالى: ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة مهتدين كما قال تعالى: ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين

                                                          [ ص: 2723 ] وكما قال: لو شاء لجمعهم على الهدى، وكما قال تعالى: ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا

                                                          وإننا نؤكد هنا أن الإرادة والمشيئة لا يستلزمان رضاه سبحانه، فإذا كان قد شاء ضلالة بعض عباد، فإنه لا يرضى من عباده الكفر.

                                                          ولذا لا يصح للمشركين، ولا لمن تكلموا في فلسفة أن يربطوا بين المشيئة والرضا، فقد نفى الله تعالى ذلك نفيا مؤكدا في الكثير من الآيات، وما ربك بظلام للعبيد.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية