الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق الثاني والثمانون والمائة بين قاعدة ما يتقدم مسببه عليه من الأسباب الشرعية وبين قاعدة ما لا يتقدم عليه مسببه )

اعلم أن أزمنة ثبوت الأحكام أربعة أقسام ، ما يتقدم وما يتأخر وما يقارن وما يختلف فيه فأما ما يقارن فكالأسباب الفعلية في حيازة المباح كالحشيش والصيد والسلب في الجهاد حيث سوغناه بإذن الإمام على رأينا أو مطلقا على رأي الشافعية وشرب الخمر والزنى والسرقة للحدود ومن ذلك التعاليق اللغوية فإنها كلها أسباب فإذا علق على شرط الطلاق أو غيره ، وأما ما يتقدم أحكامه عليه فكإتلاف المبيع قبل القبض فإنك تقدر الانفساخ في المبيع قبل تلفه ليكون المحل [ ص: 223 ] قابلا للانفساخ ؛ لأن المعدوم الصرف لا يقبل انقلابه لملك البائع على الخلاف الذي تقدم في الفرق الذي قبل هذا الفرق وكمثل الخطأ فإن له حكمين

( أحدهما ) يتقدم عليه وهو وجوب الدية فإنها إنما تجب بالزهوق ؛ لأنه سبب استحقاقها من جهة أنها موروثة والإرث إنما يكون فيما تقدم فيه ملك الميت فيجب أن يقدر ملكه لها حالة حياته في حالة تقبل الملك ؛ لأن الميت لا يقبله ،

وثانيهما يقترن به وهو وجوب الكفارة فإنه لا ضرورة لتقديمها على القتل كما تقدم في الدية [ ص: 224 ]

وأما ما تتأخر عنه أحكامه فكبيع الخيار يتأخر فيه نقل الملك عن العقد إلى الإمضاء على الصحيح وكالطلاق الرجعي مع البينونة بخلاف تحريم الوطء وتنصيص العدد فإنها تقارن وكالوصية يتأخر نقلها للملك في الموصى به بعد الموت ، وكذلك السلم والبيع إلى أجل يتأخر عنه توجه المطالبة إلى انقضاء الأجل ، وأما ما اختلف فيه فكالأسباب القولية نحو العتق والبيع والإبراء والطلاق والأمر والنهي والشهادات فهل تقع مسبباتها مع آخر حرف منها وهو مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري فإنه كان من الفقهاء الأجلة كما كان شيخ المتكلمين هذا مذهبه في الفقه في هذه المسألة أو تقع مسبباتها عقيب آخر حرف وهو مذهب جماعة من الفقهاء خلاف [ ص: 225 ]

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

قال ( الفرق الثاني والثمانون والمائة بين قاعدة ما يتقدم مسببه عليه من الأسباب الشرعية وبين قاعدة ما لا يتقدم مسببه إلى آخر هذا القسم ) قلت ما قاله فيه صحيح قال ( وأما ما تتقدم أحكامه عليه فكإتلاف المبيع قبل القبض إلى قوله على الخلاف الذي تقدم في الفرق الذي قبل هذا الفرق ) قلت لا يصح تقدير الانفساخ في المبيع قبل تلفه ولا حاجة إليه أما عدم صحته فلأن الصحيح [ ص: 223 ] في الأسباب المطرد فيها أن تعقبها مسبباتها أو تقارنها .

وأما عدم الحاجة إليه فلأن انقلاب المبيع إلى ملك البائع لا حاجة إليه ؛ لأن الداعي إلى ادعاء الحاجة إلى انقلابه إلى ملكه إنما هو كون ضمانه منه وكون ضمانه منه لا يستلزم كونه على ملكه للزوم الضمان بدون الملك كما في المعتدي وإنما كان ضمانه من البائع وإن لم يكن على ملكه ؛ لأنه بقي عليه فيه حق التوفية .

قال ( وكقتل الخطأ فإن له حكمين إحداهما يتقدم عليه وهو وجوب الدية فإنها لا تجب إلا بالزهوق ؛ لأنه سبب استحقاقها ) قلت ما قاله غير مسلم ، بل تجب بإنفاذ المقاتل الذي يئول إلى الزهوق قال ( ومن جهة أنها موروثة إلى قوله ؛ لأن الميت لا يقبله ) قلت لا حاجة إلى تقدير ملك الدية ، بل هو محقق بناء على أن السبب هو الإنفاذ لا الزهوق قال

( وثانيهما يقترن به وهو وجوب الكفارة فإنه لا ضرورة لتقديمها على القتل كما تقدم في الدية ) قلت قد تبين أنه لا ضرورة فيهما [ ص: 224 ] قال ( وأما ما تتأخر عنه أحكامه فكبيع الخيار يتأخر فيه نقل الملك عن العقد إلى الإمضاء على الصحيح ) قلت إنما تأخر نقل الملك في بيع الخيار ؛ لأن البيع إنما ثبت من أحد الطرفين دون الآخر فهو عقد غير تام فتأخر مسببه إلى تمامه .

قال ( وكالطلاق الرجعي إلى قوله يتأخر عنه توجه المطالبة إلى انقضاء الأجل ) قلت جميع ما ذكره أسباب لم تتم فلم تترتب عليها مسبباتها حتى تمت واستوفت شروطها فلم يأت بمثال صحيح لما يتأخر عن سببه قال ( وأما ما اختلف فيه فكالأسباب القولية نحو العتق والبيع إلى قوله وهو مذهب جماعة من الفقهاء خلاف ) قلت الأمر في ذلك الخلاف قريب ولا أراه يئول إلى طائل .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

[ ص: 225 ] الفرق الثاني والثمانون والمائة بين قاعدة ما يتقدم مسببه عليه من الأسباب الشرعية وبين قاعدة ما لا يتقدم عليه مسببه )

وهو مبني على ما للأصل من وقوع ما يتقدم مسببه عليه من الأسباب الشرعية وتمثيله بمثالين

( المثال الأول ) إتلاف المبيع قبل [ ص: 236 ] القبض بناء على القول بأنه يوجب الفسخ قبله بأن تقدر الانفساخ في المبيع قبل تلفه ليكون المحل قابلا للانفساخ ؛ لأن المعدوم الصرف لا يقبل انقلابه لملك البائع كما تقدم في الفرق الذي قبل هذا الفرق

( والمثال الثاني ) القتل خطأ بالنسبة لوجوب الدية لا لوجوب الكفارة بناء على أن الدية إنما تجب بالزهوق لا بإنفاذ المقاتل وأن الزهوق سبب استحقاقها من جهة كونها موروثة والإرث إنما يكون فيما تقدم فيه ملك الميت فتدعو الضرورة إلى أن يقدر تقدير ملكه لها في حالة تقبل الملك وهي حالة حياته ؛ لأن الميت لا يقبله ولا ضرورة تدعو لتقديم لزوم الكفارة على القتل الخطأ وأن ما لا يتقدم عليه مسببه من الأسباب الشرعية ثلاثة أقسام ؛ لأنه إما سبب فعلي تام فيقارنه مسببه كالأسباب في حيازة المباح كالحشيش والصيد والسلب في الجهاد حيث سوغناه بإذن الإمام على رأينا أو مطلقا على رأي الشافعية وكشرب الخمر والزنى والسرقة للحدود وكالتعاليق اللغوية فإنها كلها أسباب شرعية فإذا علق على شرط الطلاق أو غيره قارن لزوم المعلق وقوع ذلك الشرط المعلق عليه قال الشافعي رضي الله عنه إذا قال لامرأته إن أعطيتني ألفا فأنت طالق ففعلت طلقت لكن هذه الصورة تشكل جدا على أصل الشافعي وقاعدته من أن المعطاة والفعل والمناولة لا يوجب شيء من ذلك انتقال ملك فإنه إن أراد بالإعطاء الإقباض فينبغي أن تطلق ولا يستحق شيئا كما لو قال إن أقبضتني وهو بعيد وإن أراد بالإعطاء التمليك وهو الظاهر كان تمليكا بمجرد المناولة فيعضد المالكية في بيع المعاطاة بالقياس على هذه الصورة ويكون نقضا على أصله .

ولا يمكن أن يقال اللفظ السابق في التعليق حصل به انتقال الملك لأن لفظ التعليق إنما اقتضى ربط الطلاق بالإعطاء ولم يقتض حصول الملك في المعطي ولعلها لا تعطيه شيئا فإن اللفظ الدال على الملك لم يوجد ألبتة فلا يمكن الاعتماد عليه إلا أن يريد الشافعي بقوله ففعلت أي ملكته الألف بشرط التمليك الذي هو التلفظ بما يقتضيه فيندفع الإلزام عنه .

وأما سبب فعلي غير تام فيتأخر مسببه إلى تمامه كبيع الخيار يتأخر فيه نقل الملك عن العقد إلى الإمضاء على الصحيح ؛ لأن البيع إنما ثبت من أحد الطرفين دون الآخر فهو عقد غير تام فتأخر مسببه إلى تمامه وكالطلاق الرجعي مع البينونة فإنها تتأخر إلى خروج المطلقة من العدة وكالوصية يتأخر نقل الملك في الموصى به بعد الموت وكالسلم والبيع إلى أجل يتأخر عنه بوجه المطالبة إلى انقضاء الأجل .

وأما سبب قولي تام كالعتق والبيع والإبراء وتحريم الوطء وتنصيص العدد في الطلاق وكالأمر والنهي والشهادات فيجري فيه الخلاف السابق بين الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني وجماعة من الفقهاء هل تقع مسبباته مع آخر حرف منه أو عقيب آخر حرف منه وذهب إلى الأول أيضا الشيخ أبو الحسن الأشعري فإنه كان من الفقهاء الأجلة كما كان شيخ المتكلمين هذا خلاصة كلام الأصل مع تنقيح وزيادة وكتب عليه ابن الشاط ما حاصله أن الصحيح في الأسباب الشرعية المطرد فيها أن تعقبها مسبباتها أو تقارنها فلا يصح تقدير الانفساخ في المبيع قبل تلفه ولا تقدير ملك الدية قبل الموت على أنه لا حاجة إلى تقدير الانفساخ في المبيع قبل تلفه ؛ لأن انقلاب المبيع إلى ملك البائع لا حاجة ؛ لأن الداعي إلى ادعاء الحاجة إلى انقلابه إلى ملكه إنما هو كون ضمانه منه وكون ضمانه منه لا يستلزم كونه على ملكه للزوم الضمان بدون الملك كما في المتعدي .

وإنما كان ضمانه من البائع وإن لم يكن على ملكه ؛ لأنه بقي عليه فيه حق التوفية ولا إلى تقديم ملك الدية ، بل هو محقق بناء على أن السبب هو الإنفاذ لا الزهوق فلا ضرورة لتقديمها كما لا ضرورة لتقديم الكفارة قال والأمر في الخلاف في الأسباب القولية قريب ولا أراه يئول إلى طائل والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية