الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          باب اختلافهم في الإدغام الكبير

                                                          الإدغام هو اللفظ بحرفين حرفا كالثاني مشددا وينقسم إلى كبير وصغير .

                                                          ( فالكبير ) ما كان الأول من الحرفين فيه متحركا ، سواء أكانا مثلين أم جنسين أم متقاربين ، وسمي كبيرا لكثرة وقوعه ، إذ الحركة أكثر من السكون . وقيل : [ ص: 275 ] لتأثيره في إسكان المتحرك قبل إدغامه . وقيل : لما فيه من الصعوبة . وقيل : لشموله نوعي المثلين والجنسين والمتقاربين .

                                                          ( والصغير ) هو الذي يكون الأول منهما ساكنا وسيأتي بعد باب وقف حمزة وهشام على الهمز ، وكل منهما ينقسم إلى جائز وواجب وممتنع ، كما هو مفصل عند علماء العربية ، وتقدم الإشارة إلى ما يتعلق بالقراءة في الكلام على الحروف في فصل التجويد ، وسيأتي تتمته في آخر باب الإدغام الصغير والكلام عند القراء على الجائز ومنهما بشرطه عمن ورد .

                                                          وينحصر الكلام على الإدغام الكبير في فصلين : الأول في رواته ، والثاني في أحكامه . فأما رواته فالمشهور به والمنسوب إليه والمختص به من الأئمة العشرة هو أبو عمرو بن العلاء وليس بمنفرد به ، بل قد ورد أيضا عن الحسن البصري ، وابن محيصن ، والأعمش وطلحة بن مصرف ، وعيسى بن عمر ، ومسلمة بن عبد الله الفهري ، ومسلمة بن محارب السدوسي ، ويعقوب الحضرمي ، وغيرهم ، ووجهه طلب التخفيف . قال أبو عمرو بن العلاء : الإدغام كلام العرب الذي يجري على ألسنتها ، ولا يحسنون غيره ، ومن شواهده في كلام العرب قول عدي بن زيد :


                                                          وتذكر رب الخورنق إذ فك ر يوما وللهدى تفكير



                                                          قوله : " تذكر " فعل ماض ، و " رب " فاعله .

                                                          وقال غيره :


                                                          عشية تمنى أن تكون حمامة     بمكة يؤويك الستار المحرم



                                                          ثم إن لمؤلفي الكتب ومن أئمة القراء في ذكره طرقا ؛ منهم من لم يذكره ألبتة كما فعل أبو عبيد في كتابه ، وابن مجاهد في سبعته ، ومكي في تبصرته والطلمنكي في روضته ، وابن سفيان في هاديه ، وابن شريح في كافيه ، والمهدوي في هدايته ، وأبو الطاهر في عنوانه ، وأبو الطيب بن غلبون وأبو العز القلانسي في إرشاديهما ، وسبط الخياط في موجزه ، ومن تبعهم كابن الكندي ، وابن زريق ، والكمال ، والديواني ، وغيرهم ، ومنهم من ذكره في أحد الوجهين ، عن أبي عمرو بكماله من جميع طرقه وهم [ ص: 276 ] الجمهور من العراقيين وغيرهم ، ومنهم من ذكره عن الدوري والسوسي معا كأبي معشر الطبري في تلخيصه ، والصفراوي في إعلانه ، ومنهم من خص به السوسي وحده كصاحب " التيسير " ، وشيخه أبي الحسن طاهر بن غلبون ، والشاطبي ، ومن تبعهم ، ومنهم من لم يذكره عن السوسي ، ولا الدوري ، بل ذكره عن غيرهما من أصحاب اليزيدي وشجاع ، عن أبي عمرو كصاحب " التجريد " والمالكي صاحب " الروضة " ، وذلك كله بحسب ما وصل إليهم مرويا ، وصح لديهم مسندا ، وكل من ذكر الإدغام ورواه لا بد أن يذكر معه إبدال الهمز الساكن كما ذكر من لم يذكر الإدغام إبداله مع الإظهار ، فثبت حينئذ عن أبي عمرو مع الإدغام وعدمه ثلاث طرق ( الأولى ) الإظهار مع الإبدال ، وهو أحد الأوجه الثلاثة عند جمهور العراقيين ، عن أبي عمرو بكماله ، وأحد الوجهين عن السوسي في " التجريد " " والتذكار " وأحد الوجهين في " التيسير " المصرح به في أسانيده من قراءته على فارس بن أحمد وفي " جامع البيان " من قراءته على أبي الحسن ، وهو الذي لم يذكر مكي والمهدوي وصاحب " العنوان " و " الكافي " ، وغيرهم ممن لم يذكر الإدغام عن أبي عمرو سواه وجها واحدا ، وكذلك اقتصر عليه أبو العز في إرشاده ، إلا أن بعضهم خص ذلك بالسوسي كصاحب " العنوان " و " الكافي " وبعضهم عم أبا عمرو كمكي وأبي العز في إرشاده ( الثانية ) الإدغام مع الإبدال ، وهو الذي في جميع كتب أصحاب الإدغام من روايتي الدوري ، والسوسي جميعا ، ونص عليه عنهما جميعا الداني في جامعه تلاوة ، وهو الذي عن السوسي في " التذكرة " لابن غلبون و " الشاطبية " ومفردات الداني ، وهو الوجه الثاني عنه في " التيسير " و " التذكار " ، وهو المأخوذ به اليوم في الأمصار من طريق " الشاطبية " " والتيسير " ، وإنما تبعوا في ذلك الشاطبي ، رحمه الله .

                                                          قال السخاوي في آخر باب الإدغام من شرحه : وكان أبو القاسم - يعني الشاطبي - يقرئ بالإدغام الكبير من طريق السوسي ; لأنه كذلك قرأ . وقال أبو الفتح فارس بن أحمد : وكان أبو عمرو يقرئ بهذه القراءة الماهر النحرير الذي عرف وجوه القراءات ولغات العرب ( الثالثة ) الإظهار مع [ ص: 277 ] الهمز ، وهو الأصل عن أبي عمرو ، والثابت عنه في جميع الطرق ، وقراءة العامة من أصحابه ، وهو الوجه الثاني عن السوسي في " التجريد " وللدوري عند من لم يذكر الإدغام كالمهدوي ، ومكي ، وابن شريح ، وغيرهم ، وهو الذي في " التيسير " عن الدوري من قراءة الداني على أبي القاسم عبد العزيز بن جعفر البغدادي وبقيت طريق رابعة ، وهي الإدغام مع الهمز ممنوع منها عند أئمة القراءة ، لم يجزها أحد من المحققين ، وقد انفرد بذكرها الهذلي في كامله ، فقال : وربما همز وأدغم المتحرك ، هكذا قرأنا على ابن هاشم ، على الأنطاكي ، على ابن بدهن ، على ابن مجاهد على أبي الزعراء على الدوري .

                                                          ( قلت ) : كذا ذكره الهذلي ، وهو وهم عنه عن ابن هاشم المذكور ، عن هذا الأنطاكي ; لأن ابن هاشم المذكور هو أحمد بن علي بن هاشم المصري يعرف بتاج الأئمة ، أستاذ مشهور ضابط ، قرأ عليه وأخذ عنه غير واحد من الأئمة ، كالأستاذ أبي عمرو الطلمنكي وأبي عبد الله بن شريح وأبي القاسم بن الفحام ، وغيرهم ، ولم يحك أحد منهم عنه ما حكاه الهذلي ، ولا ذكره ألبتة . وشيخه الأنطاكي هو الحسن بن سليمان أستاذ ماهر حافظ ، أخذ عنه غير واحد من الأئمة : كأبي عمرو الداني وموسى بن الحسين المعدل الشريف صاحب " الروضة " ، ومحمد بن أحمد بن علي القزويني وغيرهم ، ولم يذكر أحد منهم ذلك عنه ، وشيخه ابن بدهن هو أبو الفتح أحمد بن عبد العزيز البغدادي إمام متقن مشهور ، أحذق أصحاب ابن مجاهد ، أخذ عنه غير واحد من الأئمة كأبي الطيب عبد المنعم بن غلبون ، وابنه أبي الحسن طاهر ، وعبيد الله بن عمر القيسي ، وغيرهم ، لم يرو أحد منهم ذلك عنه ، وشيخه ابن مجاهد شيخ الصنعة وإمام السبعة ، نقل عنه خلق لا يحصون ، ولم ينقل ذلك أحد عنه ، وكذلك أغرب القاضي أبو العلاء محمد بن علي بن يعقوب الواسطي حيث قال : أقرأني أبو القاسم عبد الله بن اليسع الأنطاكي ، عن قراءته على الحسين بن إبراهيم بن أبي عجرم الأنطاكي ، عن قراءته على أحمد بن جبير عن اليزيدي ، عن أبي عمرو بالإدغام الكبير مع الهمز ، قال القاضي : ولم يقرئنا أحد من شيوخنا بالإدغام مع الهمز إلا هذا [ ص: 278 ] الشيخ .

                                                          ( قلت ) : ولا يتابع أيضا هذا الشيخ ولا الراوي عنه على ذلك إذا كان على خلافه أئمة الأمصار في سائر الأعصار ، قال أبو علي الأهوازي : وما رأيت أحدا يأخذ عن أبي عمرو بالهمز وبإدغام المتحركات ، ولا أعرف لذلك راويا عنه . انتهى . ناهيك بهذا من الأهوازي الذي لم يقرأ أحد فيما نعلم مثلما قرأ ، وقد حكى الأستاذ أبو جعفر بن الباذش ، عن شيخه شريح بن محمد أنه كان يجيز الهمز مع الإدغام ، فقال في باب الإدغام من إقناعه بعد حكايته كلام الأهوازي المذكور : والناس على ما ذكر الأهوازي ، إلا أن شريح بن محمد أجاز لي الإدغام مع الهمز ، قال : وما سمعت ذلك من غيره .

                                                          ( قلت ) : وقد قصد بعض المتأخرين التغريب ، فذكر ذلك معتمدا على ما ذكره الهذلي ، فكان بعض شيوخنا يقرئنا عنه بذلك ، وأخذ علي الأستاذ أبو بكر بن الجندي بذلك عندما قرأت عليه بالمبهج متمسكا بما فيه من العبارة المحتملة ، حيث قال في باب الإدغام : إنه قرأ من رواية السوسي بالإدغام والإظهار وبالهمز وتركه ، وليس في هذا تصريح بذلك ، بل الصواب الرجوع إلى ما عليه الأئمة وجمهور الأمة ونصوص أصحابه هو الصحيح ، فقد روى الحافظ أبو عمرو الداني أن أبا عمرو كان إذا أدرج القراءة ، أو أدغم لم يهمز كل همزة ساكنة ; فلذلك تعين له القصر أيضا حالة الإدغام كما سيأتي تحقيق ذلك ، والله تعالى أعلم .

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية