الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 354 ] معنى حديث: « من تقرب إلي شبرا ...» [ ص: 356 ] وأما قوله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه: « من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة».

فجوابه من وجوه:

أحدها: أن يعلم أولا أن هذا الحديث ليس فيه إخبار مطلق عن الله بمشي وهرولة، وإنما هو معلق بفعل العبد، مذكور على سبيل الجزاء والمقابلة، فقال: « من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة».

فتقرب العبد إلى ربه [لو كان] مقدرا بالمساحة متضمنا للمشي، أمكن أن يقول القائل: فظاهر هذا الحديث أن تقرب الرب كذلك، وإن كان العبد يعلم أن تقربه إنما هو [بإيمانه]، وعمله الصالح، فكيف يظن في تقرب الرب ما لا يظنه في تقربه بنفسه؟!

والغرض اقتراب أحد المتقربين بالآخر، أو ذكره لأحدهما على [ ص: 358 ] سبيل الجزاء على الآخر والثواب له، وأن الأول شرط لغوي، وهو سبب معنوي، والمسبب من جنس السبب.

فهذا التركيب والتأليف يوجب أن لا يدل الثاني ولا يفهم ما يعلم أن الأول لم يدل عليه ولم يفهمه. فكيف يظن أن يكون ظاهر ما حكاه عن ربه هو ما ينزه نفسه عنه؟!

الوجه الثاني: أنا نحن فقد قدمنا تقرب الله من عبده وقربه منه، وأن ذلك جائز عند السلف وأكثر الخلف من أهل الحديث والفقهاء ومتكلميهم، والأشعري وغيرهم، وذكرنا بعض الألفاظ في ذلك، وإتيانه ومجيئه ونزوله ودنوه وغير ذلك، فلم يكن القرب عليه ممتنعا، [وهو] عندهم في الجملة حق.

وإذا كان كذلك سلكوا الجواب المركب، فقالوا: أي نص فرض، فإما أن يكون ظاهره يدل على القرب، أو لا يكون ظاهره يدل على [ ص: 359 ] القرب، فإن كان الأول، لم يكن حمله على ظاهره ممتنعا، ولم يكن صرفه واجبا. وإن كان ظاهره لا يدل على قربه بنفسه، لم يكن أيضا محتاجا إلى الصرف عن الظاهر الذي يسمونه: التأويل، فلا يرد عليهم نقض على التقديرين.

فيقال: هذا الحديث إن كان ظاهره قرب الرب بنفسه، فذاك ممكن، فإن لم يكن هذا ظاهره، فلا حاجة إلى صرفه عن ظاهره.

ثم كثير منهم يقولون: ليس ظاهره القرب بنفسه، وإنما هو مثل ضربه; لأن جزاءه أعظم من عمل العبد. وأخرج ذلك على وجه المقابلة فقال: « من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا» والذراع ضعف الشبر. « ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا» والباع ضعف الذراع. « ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» والهرولة ضعف المشي.

قالوا: ومعلوم أن إتيان العبد ربه وتقربه إليه لا يحتاج إلى مشيه، فقد يكون بإيمان وعلم. وهذا قول كثير ممن يفر عن هذا الحديث، ويقول: هذا الحديث معناه ظاهر ليس من أحاديث الصفات.

التالي السابق


الخدمات العلمية