الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 346 ] باب الدعوى في وقت قبل وقت

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وإذا كان العبد في يد رجل ، فأقام رجل بينة أنه منذ سنين ، وأقام الذي هو في يديه البينة أنه له منذ سنة فهو للذي هو في يديه ولم أنظر إلى قديم الملك وحديثه ( قال المزني ) : أشبه بقوله أن يجعل الملك للأقدم أولى ، كما جعل ملك النتاج أولى ، وقد يمكن أن يكون صاحب النتاج قد أخرجه من ملكه ، كما أمكن أن يكون صاحب الملك الأقدم أخرجه من ملكه " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وصورتها في رجلين تداعيا عينا منقولة ، كعبد ، أو دابة ، أو غير منقولة كدار أو عقار .

                                                                                                                                            وأقام البينة أنها له منذ سنة ، وأقام الآخر البينة أنها له منذ شهر ، أو أطلق الشهادة بالملك في الحال أو في مدة هي أقصر
                                                                                                                                            ، فلا يخلو حال الملك المتنازع فيه من ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون في يد غيرهما .

                                                                                                                                            والثاني : أن يكون في يدي أحدهما .

                                                                                                                                            والثالث : أن يكون في أيديهما .

                                                                                                                                            فأما القسم الأول : إذا كان الملك في يدي غيرهما ولأحدهما بينة بقديم الملك منذ سنة ، والآخر بينة لحديث الملك منذ شهر ، ففيهما قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو اختيار أبي العباس بن سريج : أنهما سواء ، لا يترجح من شهدت بقديم على الأخرى لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنهما تنازعا ملكها في الحال ، فلم تؤثر بينة ما شهدت بما قبلها ، لأنه غير متنازع فيه .

                                                                                                                                            والثاني : أن الشهادة بحديث الملك ، لم تنف بقديم الملك وإن أثبتته الأخرى فصارتا متكافئتين .

                                                                                                                                            [ ص: 347 ] والقول الثاني : وهو أظهر وبه قال أبو حنيفة ، واختاره المزني ، أن الشهادة بقديم الملك أرجح ، والحكم بها أولى لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنهما قد تعارضتا في أقل المدتين ، وأثبتت المتقدمة ملكا لم يعارض فيه ، فوجب وقف المتعارض ، وأمضى ما ليس فيه تعارض .

                                                                                                                                            والثاني : أن ثبوت ملك المتقدم يمنع أن يملكه المتأخر إلا عنه ، ولم تتضمنه الشهادة ، فلم يحكم بها ، فإذا تقرر توجيه القولين .

                                                                                                                                            فإن قيل بتساويهما على القول الأول ، صارتا متعارضتين فيكون فيهما ثلاثة أقاويل :

                                                                                                                                            أحدها : إسقاطها والرجوع إلى صاحب اليد .

                                                                                                                                            والقول الثاني : الإقراع بينهما ، والحكم لمن قرع منهما .

                                                                                                                                            والقول الثالث : استعمالها ، وقسم الشيء بينهما ، وهذا القول يجيء في هذا الموضع لمكان الاشتراك .

                                                                                                                                            فإن قيل بترجيح البينة بقديم الملك على البينة بحديثه ، وجعل الحكم فيها أولى ، ثبت لصاحبها الملك من المدة المتقدمة ، وحكم له بما حدث عن الملك من نتاج ، ونماء وغلة في تلك المدة ، وإلى وقته ، ثم يبنى على هذين القولين ما جعله المزني أصلا ، وهو إن تنازعا دابة ، فيقيم أحدهما البينة أنها له نتجها في ملكه ، ويقيم الآخر البينة أنها له ، ولا يقولون نتجها في ملكه .

                                                                                                                                            حكى المزني عن الشافعي رضي الله عنه أنه جعلها لمن أقام البينة ، أنه نتجها في ملكه ، وجعله شاهدا على الحكم بقديم الملك دون حديثه ، فاختلف أصحابنا في النتاج : هل يترجح بالبينة قولا واحدا ، أو يكون على قولين كالشهادة بقديم الملك ؟ وذهب ابن سريج وابن خيران إلى التسوية بينهما ، وأنهما على قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنهما سواء في التعارض .

                                                                                                                                            والثاني : أنه يترجح البينة بقديم الملك ، وبالنتاج على البينة الخالية منهما .

                                                                                                                                            وحكى أبو علي بن خيران عن أبي العباس بن سريج أن الشهادة بالنتاج ليست من منصوصات الشافعي ، وإنما أوردها المزني من تلقاء نفسه .

                                                                                                                                            وذهب جمهور أصحابنا إلى صحة نقله ، وأن بينة النتاج عند الشافعي أقوى من البينة بقديم الملك على قولين ، ولئن لم يكن النتاج مسطورا ، فقد نقله عنه سماعا ، وفرقوا بين النتاج وقديم الملك في القوة ، بأن الشهادة بالنتاج على ملكه تنفي أن يتقدم [ ص: 348 ] عليهما ملك لغيره ، فصار النتاج بهذا الفرق أقوى من قديم الملك ، فلذلك رجحت البينة بالنتاج قولا واحدا ، وكان ترجيحها بقديم الملك على قولين ، وهكذا لو تنازعا ثوبا ، وأقام أحدهما البينة على أنه له ، نسجه في ملكه ، وأقام الآخر ، البينة على أنه له ، ولم يقولوا نسجه في ملكه كان كالبينة بالنتاج على ما قدمناه من الشرح .

                                                                                                                                            فأما إذا شهدت بينة أحدهما بسبب الملك من الابتياع ، أو ميراث وشهدت الأخرى بالملك من غير ذكر سببه ، فيكون الترجيح بذكر السبب كالترجيح بقديم الملك ، فيكون على قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن النسج ملحق بالنتاج وذكر السبب ملحق بقديم الملك .

                                                                                                                                            فصل : وأما القسم الثاني : إذا كان الملك في يدي أحدهما وشهدت بينة أحدهما أنه له منذ سنة ، وشهدت بينة الآخر أنه له منذ شهر ، فإن كانت البينة بقديم الملك لصاحب اليد ، حكم له بالملك ، لا يختلف فيه مذهب الشافعي ، وجميع أصحابه ، لأنه قد ترجح باليد ، وبقديم الملك ، إن كانت البينة بقديم الملك الخارج ، دون صاحب اليد ترجح أحدهما باليد وترجح الآخر بقديم الملك فالذي نص عليه الشافعي هاهنا أنها تكون لصاحب اليد ترجيحا بيده على قديم الملك ، وتابعه جمهور أصحابه على هذا القول ، وبه قالأبو حنيفة ، فإنه حكم ببينة صاحب اليد في هذا الموضع ، وإن كان يرى أن بينة الخارج أولى من بينة صاحب اليد ، لأنه يمنع من بينة الداخل ، إذا لم تفد إلا ما أفادت اليد .

                                                                                                                                            فأما إذا أفادت زيادة على ما أفادته اليد ، فإنه يقدمها على بينة الخارج ، وقد أفادت هذه البينة زيادة على ما أفادته يده ، فلذلك قدمها على بينة الخارج ، وعلى قول أبي يوسف ، ومحمد ، تكون بينة الخارج أولى في الأحوال كلها .

                                                                                                                                            وذهب أبو إسحاق المروزي ، ومن تابعه من أصحاب الشافعي : إلى أن الترجيح بقديم الملك أولى من الترجيح باليد ، فيكون على قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : يحكم بقديم الملك إذا رجحت به البينة .

                                                                                                                                            والثاني : يحكم لصاحب اليد إذا لم تترجح به البينة ، واحتج في ترجيح قديم الملك على الترجيح باليد ، بأنه لو شهدت بينة مدع أن هذه الدار كانت له بالأمس حكم له بملك الدار في اليوم استدامة لملكه ، ولو شهدت له أنها كانت في يده بالأمس لم يحكم له باليد في اليوم ، ولم يوجب استدامة يده .

                                                                                                                                            وهذا خطأ من قائله ، لأن البينة تزاد لإثبات اليد ، فإذا ترجحت إحداهما باليد ، وافقت موجبها ، وخالفت موجب الأصل ، فكذلك ترجحت البينة بها ، وهذا المعنى موجود في قديم الملك وحديثه .

                                                                                                                                            [ ص: 349 ] فأما ما استشهد به من قديم اليد ، وقديم الملك ، فهما سواء لا يحكم فيهما باستدامة اليد ، ولا باستدامة الملك حتى يشهدوا أنه كان مالكا لها بالأمس ، وإلى وقته ، لأن النزاع في ملكها ، فالوقت دون ما تقدم ، فصارت الشهادة بالمتقدم من غير التنازع ، فلم يحكم بها ، لأنه قد يملك ما يزول عنه ملكه في اليوم فإن كان أبو إسحاق المروزي يرى الحكم بها في اليوم مذهبا لنفسه ، خولف فيه تعليلا بما ذكرنا .

                                                                                                                                            فإن قيل : فإذا رجحتم البينة باليد ، فهلا رجحتم بزيادة العدد ؟

                                                                                                                                            قيل : لأن زيادة العدد لم تفد زيادة على ما أفادته زيادة البينة ، واليد أفادت من زيادة التصرف ما لم تفد البينة ، فلذلك ترجحت البينة باليد ، ولم تترجح بزيادة العدد .

                                                                                                                                            فصل : وأما القسم الثالث : إذا كان الملك في أيديهما ، وكان دارا ، فأقام كل واحد منهما بأن جميع الدار له ، فهذا على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن تتكافأ البينتان ، ولا تشهد إحداهما بقديم الملك ، فقد أقام كل واحد منهما بينته بملك جميع الدار التي نصفها بيده ، ونصفها بيد الآخر ، فصار له فيما بيده بينة داخل ، وفيما في يد صاحبه بينة خارج ، فتعارضت البينتان في الدخول والخروج ، فإن قيل إن تعارضهما موجب لسقوطهما حلف كل واحد منهما لصاحبه ، وأقرت الدار في أيديهما ملكا باليد والتحالف .

                                                                                                                                            وإن قيل : إن تعارضهما موجب لاستعمالهما وقسم الملك بينهما ، فلا يمين عليهما ، وتجعل الدار بينهما ملكا بالبينة .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن تشهد بينة أحدهما بقديم الملك وتشهد بينة الآخر بحديث الملك ، فإن لم تجعل الشهادة بقديم الملك ترجيحا للبينة على أحد القولين ، فالجواب على ما مضى من تكافؤ البينتين في جعل الدار بينهما نصفين ، باليد واليمين في أحد القولين ، وبالبينة من غير يمين في القول الثاني ، وإن ترجحت الشهادة بقديم المالك على القول الثاني خلص لصاحبها النصف الذي في يده ، وتقابل في النصف الآخر ، ترجيح بينة بقديم الملك ، وترجيح بينة الآخر باليد ، فعلى قول أبي إسحاق المروزي يحكم به لمن ترجحت بينته بقديم الملك ، فتصير جميع الدار له لأنه يجعل الترجيح بتقديم الملك أقوى من الترجيح باليد ، وعلى الظاهر من مذهب الشافعي ، وما عليه جمهور أصحابه يحكم بالنصف الآخر لصاحب اليد ، لأنه يجعل الترجيح باليد أقوى من الترجيح بقديم الملك ، فتصير الدار بينهما نصفين بغير أيمان قولا واحدا : لأنه محكوم بينهما في النصفين بترجيح البينتين من غير إسقاط لهما ولا قسمة باستعمالها . والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية