الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 380 ] باب في القافة ودعوى الولد من كتاب الدعوى والبينات ومن كتاب نكاح قديم

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " أخبرنا سفيان عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرف السرور في وجهه فقال : " ألم تري أن مجززا المدلجي نظر إلى أسامة وزيد ، عليهما قطيفة ، قد غطيا رءوسهما ، وبدت أقدامهما ، فقال : إن هذه الأقدام بعضها من بعض ( قال الشافعي ) : فلو لم يكن في القافة إلا هذا انبغى أن يكون فيه دلالة أنه علم ، ولو لم يكن علما لقال له : لا تقل هذا : لأنك إن أصبت في شيء لم آمن عليك أن تخطئ في غيره ، وفي خطئك قذف محصنة ، أو نفي نسب ، وما أقره إلا أنه رضيه ، ورآه علما ، ولا يسر إلا بالحق ، صلى الله عليه وسلم ، ودعا عمر رحمه الله قائفا في رجلين ادعيا ولدا ، فقال : لقد اشتركا فيه ، فقال عمر للغلام : وال أيهما شئت ، وشك أنس في ابن له ، فدعا له القافة ( قال الشافعي ) رحمه الله : وأخبرني عدد من أهل العلم من المدينة ، ومكة أنهم أدركوا الحكام يفتون بقول القافة ، ( قال الشافعي ) رحمه الله : ولم يجز الله جل ثناؤه نسب أحد قط إلا إلى أب واحد ولا رسوله عليه السلام " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح ، القيافة يحكم بها في إلحاق الأنساب ، إذا اشتبهت بالاشتراك في الوطء الموجب للحوق النسب ، فإذا اشترك الرجلان في وطء امرأة يظنها كل واحد منهما زوجته ، أو أمته ، أو يتزوجها كل واحد منهما تزويجا فاسدا يطؤها فيه ، أو كان نكاح أحدهما صحيحا يطؤها فيه ، ووطئها الآخر بشبهة ، أو يكونان شريكين في أمة ، فيشتركان في وطئها ، ثم تأتي بولد بعد وطئها لمدة لا تنقص عن أقل الحمل ، وهي ستة أشهر ، ولا تزيد على أكثره ، وهي أربع سنين ، فيمكن أن يكون من كل واحد منهما ، فلا يجوز أن يلحق بهما ، ولا يجوز أن يخلق من مائهما ، فيحكم بالقافة في إلحاقه بأحدهما :

                                                                                                                                            وكذلك لو اشترك عدد كثير في وطئها ، حكم بالقافة في إلحاقه بأحدهم ، وسواء اجتمعوا على ادعائه ، والتنازع فيه ، أو تفرد به بعضهم في استوائه في إلحاقه بأحدهم ، وهو في الصحابة قول علي بن أبي طالب ، عليه السلام في القافة ، إذا وجدوا ، ويقرع بينهم إذا فقدوا ، وحكم عمر رضي الله عنه بالقافة في إحدى الروايتين عنه ، وبه قال [ ص: 381 ] أنس بن مالك ، وبه قال من التابعين عطاء ومن الفقهاء مالك ، والأوزاعي ، وأحمد بن حنبل .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة ، وأصحابه لا يحكم بالقافة ، ويجوز أن يخلق الولد من ماء رجلين وأكثر ، وألحقه بجميعهم ، ولو كانوا مائة .

                                                                                                                                            وإذا تنازع امرأتان ولدا ألحقته بهما كالرجلين .

                                                                                                                                            وقال أبو يوسف : ألحقه بالواحد إجماعا ، وبالاثنين أثرا ، وبالثلاثة قياسا ، ولا ألحقه بالرابع ، فتحرر الخلاف مع أبي حنيفة في ثلاثة أشياء :

                                                                                                                                            أحدها : في إلحاقه بالقافة ، منع منها أبو حنيفة ، وجوزناه .

                                                                                                                                            والثاني : في إلحاقه بأبوين ، جوزه أبو حنيفة ، وأبطلناه .

                                                                                                                                            والثالث : في خلقه من ماءين فأكثر ، صححه أبو حنيفة ، وأفسدناه .

                                                                                                                                            واستدل أصحاب أبي حنيفة على إبطال قول القافة ، وأن لا يكون للشبه تأثير في لحوق الأنساب بقول الله تعالى : ولا تقف ما ليس لك به علم وهذه صفة القائف ، وبقوله تعالى : في أي صورة ما شاء ركبك ولو تركبت عن الأشباه زالت عن مشتبه ، وبقوله تعالى : أفحكم الجاهلية يبغون

                                                                                                                                            والقيافة من أحكام الجاهلية ، وقد أنكرت بعد الإسلام ، وعدت من الباطل ، حتى قال جرير في شعره :


                                                                                                                                            وطال خياري غربة البين والنوى وأحدوثة من كاشح يتقوف

                                                                                                                                            أي يقول : الباطل .

                                                                                                                                            ومما روي أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن امرأتي ولدت غلاما أسود ، وأنا أنكره ، فقال : هل لك من إبل ؟ فقال : نعم . قال : ما ألوانها ؟ قال : حمر . قال : فهل فيها من أورق ؟ قال : نعم . قال : فمن أين هذا ؟ قال : لعل عرقا نزعه . قال : وهذا لعل عرقا نزعه " . فأبطل الاعتبار بالشبه الذي يعتبره القائف ، وبما روي أن العجلاني لما قذف من شريك بن السحماء بزوجته ، وهي حامل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن جاءت به على نعت كذا فلا أراه إلا وقد صدق عليها ، وإن جاءت به على نعت كذا ، فلا أراه إلا وقد كذب عليها ، فجاءت به على النعت المكروه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن أمره لبين ، لولا ما حكم [ ص: 382 ] الله لولا الأيمان ، لكان لي ولها شأن " ، فدل على أن حكم الله يمنع من اعتبار الشبه . قالوا : ولو كانت القيافة علما لعم في الناس ، ولم يختص بقوم ولأمكن أن يتعاطاه كل من أراد كسائر العلوم ، فلما لم يعم ولم يمكن أن يتعلم ، بطل ، أن يكون علما يتعلق به حكم ، ولأنه لما لم يعمل بالقيافة في إلحاق البهائم كان أولى أن لا يعمل بها في إلحاق الأنساب ، واستدلوا على جواز إلحاق الولد بآبائه لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم : " الولد للفراش ، وللعاهر الحجر " . فلما لم يمتنع الاشتراك في الفراش ، لم يمتنع الاشتراك في الإلحاق ، وبما روي من قضية عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " اختصما في رجلين إليه وقد وطئا امرأة في طهر واحد ، فأتت بولد ، فدعا بالقائف ، وسأله ، فقال : قد أخذ الشبه منهما يا أمير المؤمنين ، فضربه عمر بالدرة ، حتى أضجعه ثم حكم بأنه ابنهما يرثهما ، ويرثانه ، وهو للباقي منهما ، فلم يظهر له في الحكم بهما مخالف مع اشتهار القضية ، فصار كالإجماع .

                                                                                                                                            قالوا : ولأنهما قد اشتركا في السبب الموجب لثبوت النسب ، فوجب أن يكون لاحقا بهما كأبوين .

                                                                                                                                            قالوا : ولأن أسباب التوارث لا يمتنع الاشتراك فيها كالولاء ، واستدلوا على جواز خلقه من ماء رجال بأنه لما خلق الولد من ماء الرجل الواحد ، إذا امتزج بماء المرأة في الرحم كان أولى أن يخلق من ماء الجماعة ، إذا امتزج ماؤهم بمائها ، لأنه بالاجتماع أقوى ، وبالانفراد أضعف ، والقوة أشبه بعلوق الولد من الضعف .

                                                                                                                                            قالوا : ولأنه إذا جاز أن يخلق من اجتماع ماء الرجل الواحد من إنزال بعد إنزال ، جاز أن يخلق من اجتماع ماء الجماعة من وطء بعد وطء ، لأن اجتماع المياه من الجماعة كاجتماعها من الواحد .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية