الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          [ ص: 3 ] كتاب الصوم يجب صوم شهر رمضان برؤية الهلال فإن لم ير مع الصحو أكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما ، ثم صاموا وإن حال دون منظره غيم أو قتر ليلة الثلاثين ، وجب صيامه بنية رمضان في ظاهر المذهب وعنه لا يجب وعنه : الناس تبع للإمام ، فإن صام صاموا وإذا رئي الهلال نهارا قبل الزوال أو بعده ، فهو لليلة المقبلة

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          كتاب الصيام .

                                                                                                                          هو والصوم مصدرا صام .

                                                                                                                          وفي اللغة عبارة عن الإمساك ومنه إني نذرت للرحمن صوما [ مريم : 26 ] وقول الشاعر :


                                                                                                                          خيل صيام خيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما



                                                                                                                          لإمساكها عن الصهيل في موضعه ، ويقال : صامت الريح : إذا أمسكت عن الهبوب .

                                                                                                                          وفي الشرع : إمساك جميع النهار عن المفطرات من إنسان مخصوص مع النية . ( يجب صوم شهر رمضان ) لقوله - تعالى - : كتب عليكم الصيام إلى قوله فمن شهد منكم الشهر فليصمه [ البقرة : 182 ، 183 ] وقوله - صلى الله عليه وسلم - بني الإسلام على خمس فذكر منها صوم رمضان . والإجماع منعقد على وجوبه ، وفرض في السنة الثانية من الهجرة ، فصام - عليه السلام - تسعا ، والمستحب قول : شهر رمضان كما صرح به تبعا للنص ، ولا يكره بإسقاط شهر في قول أكثر العلماء ، وذكر المؤلف أنه يكره إلا مع قرنه الشهر وذكر الشيخ تقي الدين وجها يكره ، وفي " المنتخب " : لا يجوز ، لخبر ، وقد ضعف ، وقال ابن الجوزي : هو موضوع . وسمي رمضان لحر جوف الصائم فيه ورمضه ، والرمضاء : شدة الحر ، وقيل : لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة فوافق شدة الحر ، وقيل : لأنه يحرق الذنوب ، وقيل : موضوع لغير معنى ، كبقية الشهور ، وقيل : فيها معان أيضا ( برؤية الهلال ) [ ص: 4 ] لقوله - عليه السلام - صوموا لرؤيته ( فإن لم ير مع الصحو أكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما ثم صاموا ) بغير خلاف ، وصلوا التراويح كما لو رأوه . ويستحب تراءي الهلال احتياطا للصوم ، وحذارا من الاختلاف ، وقد روت عائشة ، قالت كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتحفظ في شعبان ما لا يتحفظ في غيره ، ثم يصوم لرؤية رمضان رواه الدارقطني بإسناد صحيح .

                                                                                                                          ( وإن حال دون منظره ) أي مطلعه ( غيم أو قتر ليلة الثلاثين ، وجب صيامه بنية رمضان في ظاهر المذهب ) اختاره الخرقي ، وأكثر شيوخ أصحابنا ، ونصوص أحمد عليه ، وهو مذهب عمر ، وابنه ، وعمرو بن العاص ، وأبي هريرة ، وأنس ، ومعاوية ، وعائشة وأسماء بنتي أبي بكر ، وقاله جمع من التابعين لما روى ابن عمر مرفوعا قال : إذا رأيتموه فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، فإن غم عليكم فاقدروا له متفق عليه ، ومعنى فاقدروا له : أي ضيقوا لقوله - تعالى - ومن قدر عليه رزقه [ الطلاق : 7 ] أي ضيق ، وهو أن يجعل شعبان تسعا وعشرين يوما ، ويجوز أن يكون معناه : اقدروا زمانا في مثله الهلال ، وهذا الزمان يصح وجوده فيه ، أو يكون معناه : فاعلموا من طريق الحكم أنه تحت الغيم لقوله - تعالى - إلا امرأته قدرناها من الغابرين [ الحجر : 60 ] أي : علمناها . مع أن بعض المحققين قالوا : إن الشهر أصله تسع ، وعشرون ، يؤيده ما رواه أحمد عن إسماعيل عن أيوب عن نافع قال : كان عبد الله إذا مضى من شعبان تسع ، وعشرون يوما بعث من ينظر له فإن رآه فذاك ، وإن لم يره ، ولم يحل دون منظره سحاب ، ولا قتر أصبح مفطرا ، وإن حال دون منظره سحاب ، أصبح صائما أو قتر ، ولا شك [ ص: 5 ] أنه راوي الخبر وأعلم بمعناه ، فيتعين المصير إليه ، كما رجع إليه في تفسير خيار المتبايعين يؤكده قول علي وأبي هريرة وعائشة : ( لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان ) ، ولأنه يحتاط له ، ويجب بخبر الواحد ، فعلى هذا يصومه حكما ظنيا بوجوبه احتياطا ، ويجزئه إذا بان منه قيل للقاضي : لا يصح إلا بنية ومع الشك فيها لا يجزم بها ؛ فقال لا يمنع التردد فيها للحاجة كالأسير ، وصلاة من خمس . وفي الانتصار يجزئه إن لم يعتبر نية التعيين ، وإلا فلا . وظاهره أنها لا تصلى التراويح ليلتئذ ، واختاره التميميون اقتصارا على النص ، واختار جماعة عكسه قال المجد : هو أشبه بكلام أحمد القيام قبل الصيام ، وعنه : ينويه حكما جازما بوجوبه ، وقاله بعض أصحابنا ، وجزم به في " الوجيز " فعليه يصلي التراويح إذن ، ولا تثبت بقية الأحكام من حلول الآجال ، ووقوع المعلقات ، وانقضاء العدة ، وغير ذلك ، وذكر القاضي احتمالا يثبت كما يثبت الصوم ، وتوابعه من النية ، وتعيينها ووجوب الكفارة بالوطء فيه ، ونحو ذلك .

                                                                                                                          ( وعنه : لا يجب ) صومه قبل رؤية هلاله ، أو إكمال شعبان ، اختاره في " التبصرة " والشيخ تقي الدين ، وقال : هو مذهب أحمد المنصوص الصريح عنه ، وقاله أكثر العلماء لما روى أبو هريرة مرفوعا : ( صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم ، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما ) متفق عليه ، ولفظه للبخاري ، ولأنه يوم شك وهو منهي عن صومه ، والأصل بقاء الشهر فلا ينتقل عنه بالشك ، وأجيب بأن خبر أبي هريرة يرويه محمد بن زياد ، وقد خالفه سعيد بن المسيب فرواه عن أبي هريرة .

                                                                                                                          ( فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين ) وروايته أولى لإمامته ، واشتهار ثقته ، وعدالته [ ص: 6 ] وموافقته لرأي أبي هريرة . وقال الإسماعيلي : ذكر شعبان فيه من تفسير ابن أبي إياس ، وليس هو بيوم شك كما يأتي .

                                                                                                                          ( وعنه : الناس تبع للإمام فإن صام صاموا ) وإن أفطر أفطروا وجوبا ، وهو قول الحسن ، وابن سيرين ، لقوله - عليه السلام - ( الصوم يوم تصومون ، والفطر يوم تفطرون ) رواه الترمذي ، وقال : حسن غريب من حديث أبي هريرة فمعناه : أن الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس واجب ، وقال أحمد السلطان في هذا أحوط ، وأنظر للمسلمين ، وأشد تفقدا ، ويد الله على الجماعة فيتحرى في كثرة كمال الشهور قبله ونقصها ، واختاره بمن لا يكتفى به وغير ذلك من القرائن ، وقال ابن عقيل : يعمل بعادة غالبة لمضي شهرين كاملين والثالث ناقص ، وهو معنى التقدير وعنه : صومه منهي عنه ، اختاره أبو القاسم بن منده وأبو الخطاب ، وابن عقيل لأنه يوم شك وفيه نظر ، فقيل يكره ، وقيل يحرم ، وإذا لم يجب صومه وجب أداء الشهادة بالرؤية وإن لم يسأل عنها .

                                                                                                                          فرع إذا نواه احتياطا بلا مستند شرعي فبان ، منه لم يجزئه في رواية ، وعنه بلى ، وعنه : يجزئه ، ولو اعتبرت نية التعيين . ولا يحكم بطلوع الهلال بنجوم أو حساب ، ولو كثرت إصابتهما .

                                                                                                                          ( وإذا رئي الهلال نهارا قبل الزوال ، أو بعده فهو لليلة المقبلة ) هذا هو المشهور ، وقاله أكثر العلماء لما روى أبو وائل قال : جاءنا كتاب عمر أن الأهلة بعضها أكبر من بعض ، فإذا رأيتم الهلال نهارا ، فلا تفطروا حتى تمسوا ، أو يشهد رجلان مسلمان أنهما رأياه بالأمس عشية ، رواه الدارقطني فعلى هذا لا يجب به صوم [ ص: 7 ] ولا يباح به فطر ، ورؤيته نهارا ممكنة لعارض يعرض في الجو يقل به ضوء الشمس أو يكون قوي النظر ، وعنه : بعد الزوال للمقبلة ، وقبله للماضية ، اختاره أبو بكر ، والقاضي ، وقدمه في " المحرر " للقرب من كل ، واحدة منهما ، وعنه : بعد الزوال آخر الشهر للمقبلة احتياطا ، وعنه : آخر الشهر للمقبلة مطلقا .

                                                                                                                          فائدة : يقال إلى الزوال : رأيت الليلة ، وبعده يقال : رأيت البارحة . قاله ثعلب هذا باعتبار الحقيقة ، ومنع ذلك مطلقا لا وجه له .




                                                                                                                          الخدمات العلمية