الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق الثاني والمائتان بين قاعدة الصلح وغيره من العقود )

اعلم أن الصلح في الأموال دائر بين خمسة أمور : البيع إذا كانت المعاوضة عن أعيان ، والصرف إن كان فيه أحد النقدين عن الآخر ، والإجارة إن كان عن منافع ، ودفع الخصومة إن لم يتعين شيء من ذلك ، والإحسان ، وهو ما يعطيه المصالح من غير الجاني . فمتى تعين أحد هذه الأبواب روعيت فيه شروط ذلك الباب لقوله عليه السلام { الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا } ، ويجوز عندنا وعند أبي حنيفة رضي الله عنه على الإقرار والإنكار ، وقال الشافعي رضي الله عنه لا يجوز على الإنكار ، واحتج بوجوه :

( الأول ) أنه أكل المال بالباطل لأنه [ ص: 3 ] ليس عن مال لعدم ثبوته ، ولا عن اليمين ، وإلا لجازت إقامة البينة بعده ، ولجاز أخذ العقار بالشفعة لأنه انتقل بغير مال ، ولا هو من الخصومة ، وإلا لجاز عن النكاح والقذف .

( الثاني ) أنه عاوض عن ملكه فيمتنع كشراء ماله من وكيله .

( الثالث ) أنها معاوضة فلا تصح مع الجهل كالبيع .

والجواب عن الأول أنه أخذ المال بحق ، ولا يلزم من عدم ثبوته عدمه . نعم من علم أنه على باطل حرم عليه أخذ ذلك المال ، وأما إقامة البينة بعدة فقال الشيخ أبو الوليد تتخرج على الخلاف فيمن حلف خصمه ، وله بينة فله إقامتها عند ابن القاسم مع العذر وعند أشهب مطلقا .

وأما القذف فلا مدخل للمال فيه ، ولا يجوز فيه الصلح مع الإقرار فكذلك مع الإنكار ، ونلتزم الجواز في النكاح قال الشيخ أبو الوليد قال أصحابنا إذا أنكرت المرأة الزوجية أن من الناس من يوجب عليها اليمين فتفتدي بيمينها ، ونلتزم الشفعة ، وعن الثاني بالفرق بأنه مع وكيله متمكن من ماله بخلاف صورة النزاع فإنها لدرء مفسدة الخصومة ، وعن الثالث أن الضرورة هنا تدعوا للجهل بخلاف البيع قال أبو الوليد لو ادعى عليه ميراثا من جهة مورث صح الصلح فيه مع الجهل ، والعجب من الشافعي رضي الله عنه أنه يقول للمدعي أن يدخل دار المدعى عليه بالليل ، ويأخذ قدر حقه فكيف يمنع مع الموافقة من الخصم على الأخذ ، ويتأكد قولنا بقوله تعالى { وأصلحوا ذات بينكم } وغيره من الكتاب والسنة ، ولأنا أجمعنا على بذل المال بغير حق في فداء الأسارى والمخالعة والظلمة والمحاربين والشعراء فكذلك ها هنا لدرء الخصومة ، ولأنه قاطع للمطالبة فيكون مع الإقرار والإنكار كالإبراء ، ويجوز مع عدم المال من الجهتين كالصلح على دم العمد ، ولأنه يصح فيه مع الإنكار فصح الصلح عليه قياسا عليها .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

قال ( الفرق الثاني والمائتان بين قاعدة الصلح ، وغيره من العقود )

قلت ما قاله فيه غير صحيح لأنه لم يبد فرقا بين الصلح وغيره ، ولكنه تكلم على حكم الصلح ، وكلامه في ذلك صحيح .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

[ ص: 3 ] الفرق الثاني والمائتان بين قاعدة الصلح وقاعدة غيره من العقود )

وهو كما يشير له كلام الأصل أن غيره من العقود إما معاوضة في أعيان فقط ، وهو البيع إن لم يكن فيه أحد النقدين عن الآخر أو الصرف إن كان فيه ذلك ، ولكل واحد منها شروط تخصه موضحة في كتب الفقه ، وإما معاوضة في منافع فقط معينة أو مضمونة ، وهو الإجارة ، ولها شروط تخصها موضحة كذلك في كتب الفقه ، وإما إحسان ، وهو الهبة ، ولها شروط تخصها موضحة كذلك في كتب الفقه ، وهكذا وأما الصلح في الأموال فقد قال عياض هو معاوضة على دعوى ا هـ قال كنون أي ثابتة أم لا ا هـ .

فالدعوى الثابتة كان ثبوتها بإقرار أو بسكوت بناء على المشهور ، وهو قول مالك وابن القاسم معا من أن حكم السكوت حكم الإقرار ، ورجحه عياض إما أن تكون المعاوضة عليها ببعض المدعى به فيكون الصلح حينئذ هبة ، وإما أن تكون بغيره ، وحينئذ فالمدعى به إما أعيان ، وإما منافع فإن كان أعيانا فغيره المصالح به إما أعيان فيكون الصلح بيعا إن لم يكن فيه أحد النقدين عن الآخر وصرفا إن كان فيه أحد النقدين عن الآخر ، وإما منافع فيكون إجارة ، وإن كان أي المدعى به منافع فإن وقع الصلح عليها بغيرها مطلقا قبل أن يستوفيها المدعى عليه فالصلح إجارة أيضا ، وإن وقع بعد أن استوفاها المدعى عليه كانت الدعوى في عوض المنافع ، وهو في الغالب عين فيكون الصلح بغيره بيعا إن لم يكن فيه أحد النقدين عن الآخر ، وصرفا إن كان فيه ذلك ، وببعضه هبة ، والدعوى الغير الثابتة ، لا تكون على المشهور إلا عن إنكار المدعى عليه ، ويدخل فيه الافتداء بمال عن يمين توجهت على المدعى عليه ، ولو علم براءة نفسه كما هو ظاهر المدونة ، ابن ناجي ، وهو المعروف خلافا لمن منعه حيث علم براءة نفسه قال البناني يجري في المعاوضة عليها بالنظر للمدعى به ما جرى على الصلح على الإقرار أي ، ولو حكما من كونه إما هبة وإما بيعا ، وإما صرفا وإما إجارة إلا أن المعاوضة على غير الثابتة تنفرد عن صلح الإقرار بشروط ثلاثة كما سيأتي ا هـ .

بزيادة قد سلمه الرهوني وكنون ، وعليه فلا يكون الصلح في الأموال [ ص: 6 ] على كل إلا دائرا بين أربعة أمور البيع إن كانت المعاوضة عن أعيان ، والصرف إن كان فيه أحد النقدين عن الآخر ، والإجارة إن كان عن منافع ، والإحسان إن كان عن بعض المدعى به ، وهو ما يسقطه المدعي عن المدعى عليه ، ويفهم من كلام الأصل وبه صرح عبق أن المعاوضة على غير الثابتة لا يتعين فيها شيء مما ذكر من بيع أو صرف أو إجارة أو هبة بل هو دفع عن الخصومة نظرا إلى أن مالكا رحمه الله تعالى خصه بثلاثة شروط

( الأول ) أن يكون الصلح جائزا على دعوى المدعي

( والثاني ) أن يكون جائزا على دعوى المدعى عليه أي على تقدير أن المنكر يقر

( والثالث ) أن يكون جائزا على ظاهر الحكم قال البناني أي على ظاهر ما يطرأ بينهما في المخاصمة ، ومجلس الفصل ، وسلمه الرهوني وكنون ، واعتبر ابن القاسم الشرطين الأولين فقط وأصبغ أمرا واحدا ، وهو أن لا تتفق دعواهما على فساد انظر شراح المختصر فلذا قال الأصل إن الصلح في الأموال دائر بين خمسة أمور البيع إن كانت المعاوضة عن أعيان ، والصرف إن كان فيه أحد النقدين عن الآخر ، والإجارة إن كان عن منافع ، ودفع الخصومة إن لم يتعين شيء من ذلك ، والإحسان ، وهو ما يعطيه المصالح من غير الجاني فمتى تعين أحد هذه الأبواب روعيت فيه شروط ذلك الباب لقوله عليه الصلاة والسلام { الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا } ا هـ .

منه بلفظه يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم ضبط شروط الصلح المختلفة بهذا الحديث قال العدوي على الخرشي ، والمراد بالجواز الإذن فلا ينافي قول ابن عرفة الصلح في حد ذاته مندوب ا هـ .

إذا علمت هذا علمت أنه لا يظهر وجه لقول الإمام ابن الشاط ما قاله أي الأصل فيه أي في هذا الفرق غير صحيح لأنه لم يبد فرقا بين الصلح وغيره ، ولكنه تكلم علىحكم الصلح ، وكلامه في ذلك صحيح ا هـ بلفظه فتأمله لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا

( وصل ) قال الحفيد في البداية اتفق المسلمون على جواز الصلح على الإقرار ، واختلفوا في جوازه على الإنكار فقال مالك وأبو حنيفة يجوز على الإنكار ، وقال الشافعي لا يجوز على الإنكار ا هـ محل الحاجة منه ، واحتج الشافعي بوجوه ثلاثة

( الوجه الأول ) أن الصلح على الإنكار من أكل المال بالباطل لأنه ليس عن مال لعدم ثبوته ، ولا عن اليمين ، وإلا لجازت إقامة البينة بعده ، ولجاز أخذ العقار ، والمصالح به بالشفعة ، وقد انتقل بغير مال ، ولا هو عن الخصومة ، وإلا لجاز عن النكاح والقذف

( وجوابه ) [ ص: 7 ] إنا لا نسلم أنه ليس عن مال إذ لا يلزم من عدم ثبوته عدمه نعم من علم أنه على باطل حرم عليه أخذ ذلك المال ، سلمنا أنه ليس عن مال لكن لا نسلم أنه من أكل المال بالباطل حينئذ بل نقول هو عوض إما عن اندفاع اليمين عنه ، ونلتزم جواز إقامة البينة بعده ، قال الشيخ أبو الوليد تتخرج إقامة البينة بعده على الخلاف فيمن حلف خصمه ، وله بينة فله إقامتها عند ابن القاسم مع العذر ، وعند أشهب مطلقا ا هـ .

وإما عن سقوط الخصومة عنه ، ونلتزم الجواز في النكاح قال الشيخ أبو الوليد قال أصحابنا إذا أنكرت المرأة الزوجية أن من الناس من يوجب عليها اليمين فتفتدي بيمينها ا هـ . ونلتزم الشفعة ، وأما القذف فلا مدخل للمال فيه ، ولا يجوز فيه الصلح مع الإقرار فكذلك مع الإنكار

( والوجه الثاني ) أنه عاوض عن ملكه فيمتنع كشراء ماله من وكيله

( وجوابه ) بالفرق بأنه مع وكيله متمكن من ماله بخلاف صورة النزاع فإنها لدرء مفسدة الخصومة .

( والوجه الثالث ) أنها معاوضة فلا تصح مع الجهل كالبيع

( وجوابه ) أن الضرورة هنا تدعو للجهل بخلاف البيع قال أبو الوليد لو ادعى عليه ميراثا من جهة مورث صح الصلح فيه مع الجهل ا هـ .

والعجب من الشافعي رضي الله عنه أنه يقول للمدعي أن يدخل دار المدعى عليه بالليل ، ويأخذ قدر حقه فكيف يمنع مع الموافقة من الخصم على الأخذ على أن قولنا يتأكد بوجوه

( الوجه الأول ) ما ورد من الكتاب والسنة في الصلح فمن الكتاب قوله تعالى { والصلح خير } وقوله تعالى { وأصلحوا ذات بينكم } وقوله تعالى { لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس } ، ومن السنة حديث { ألا أنبئكم بصدقة يسيرة يحبها الله تعالى قالوا بلى يا رسول الله قال إصلاح ذات البين إذا تقاطعوا } ، وما روي عن الحسن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال { أفضل الناس عند الله يوم القيامة المصلحون بين الناس ، وما } رواه الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال { ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصدقة قالوا بلى يا رسول الله قال إصلاح ذات البين } وعن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنه قال من أراد فضل العابدين فليصلح بين الناس ، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال من أصلح بين اثنين أعطاه الله بكل كلمة عتق رقبة ، وما أحسن قول القائل :

إن الفضائل كلها لو جمعت رجعت بأجمعها إلى ثنتين     تعظيم أمر الله جل جلاله
والسعي في إصلاح ذات البين

[ ص: 8 ] قال الشبرخيتي ومن أجل ما في الصلح من الصدقة على المتخاصمين لوقايتهما ما يترتب على الخصام من قبيح الأقوال والأفعال جاز الكذب فيه مبالغة في وقوع الألفة لئلا تدوم العداوة ا هـ .

وقال الفشني ويجوز الكذب في الصلح الجائز ، وهو ما لا يحل حراما ، ولا يحرم حلالا مبالغة في وقوع الألفة بين المسلمين ، قيل تمنى جبريل عليه السلام أن يكون في الأرض يسقي الماء ويصلح بين المسلمين ا هـ كما في حاشية كنون على عبق .

قلت فإذا جاز الكذب الذي قال الله تعالى فيه { إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون } للمصلح من أجل ما في الصلح من الصدقة إلخ فكيف لا يجوز فيه دفع أحد المتخاصمين للآخر المال بغير حق مع الجهل لدرء مفسدة الخصومة ، ولا يخفاك أنه يؤخذ من هنا فرق آخر غير ما مر بين الصلح وغيره من العقود ، وهو أن الصلح يجوز فيه دفع المال بغير حق مع الجهل بخلاف غيره من العقود فافهم .

( الوجه الثاني ) أنا أجمعنا على بذل المال بغير حق في فداء الأسارى والمخالعة والظلمة والمحاربين والشعراء فكذلك ها هنا لدرء الخصومة .

( الوجه الثالث ) أنه قاطع للمطالبة فيكون مع الإقرار والإنكار كالإبراء فكما يصبح الإبراء مع الإنكار كذلك يصح الصلح عليه قياسا ، ولا يرد أن الإبراء بغير مال من الجهتين إذ الصلح أيضا يجوز مع عدم المال من الجهتين كالصلح على دم العمد والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية