الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد

                                                                                                                                                                                                قراءة العامة بفتح الشين، وعن الحسن: "شقوا" بالضم، كما قرئ: "سعدوا"، والزفير: إخراج النفس، والشهيق: رده; قال الشماخ [من الطويل]:


                                                                                                                                                                                                بعيد مدى التطريب أول صوته ... زفير ويتلوه شهيق محشرج



                                                                                                                                                                                                ( ما دامت السماوات والأرض ) : فيه وجهان:

                                                                                                                                                                                                أحدهما: أن تراد سموات الآخرة وأرضها وهي دائمة مخلوقة للأبد، والدليل على أن لها سموات وأرضا قوله تعالى: يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات [إبراهيم: 48]; وقوله: وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء [الزمر: 74]; ولأنه لا بد لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم: إما سماء يخلقها الله، أو يظلهم العرش، وكل ما أظلك فهو سماء .

                                                                                                                                                                                                والثاني: أن يكون عبارة عن التأييد ونفي الانقطاع، كقول العرب: ما دام تعار، وما أقام ثبير، وما لاح كوكب، وغير ذلك من كلمات التأبيد.

                                                                                                                                                                                                فإن قلت: فما معنى: الاستثناء في قوله: ( إلا ما شاء ربك ) ، وقد ثبت خلود أهل الجنة والنار في الأبد من غير استثناء ؟

                                                                                                                                                                                                قلت: هو استثناء من الخلود في عذاب النار، ومن الخلود في نعيم الجنة; وذلك أن أهل النار لا يخلدون في عذاب النار وحده، بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع من العذاب سوى عذاب النار، وبما هو أغلظ منها كلها وهو سخط الله عليهم وخسوءه لهم وإهانته إياهم، وكذلك أهل الجنة لهم سوى الجنة ما هو أكبر منها وأجل موقعا منهم، وهو رضوان الله، كما قال: وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر [التوبة: 72]، ولهم ما يتفضل الله به عليهم سوى ثواب الجنة مما لا يعرف كنهه إلا هو، فهو المراد بالاستثناء، والدليل عليه [ ص: 238 ] قوله: عطاء غير مجذوذ ومعنى قوله في مقابلته: إن ربك فعال لما يريد أنه يفعل بأهل النار ما يريد من العذاب، كما يعطي أهل الجنة عطاءه الذي لا انقطاع له، فتأمله; فإن القرآن يفسر بعضه بعضا، ولا يخدعنك عنه قول المجبرة، إن المراد بالاستثناء خروج أهل الكبائر من النار بالشفاعة، فإن الاستثناء الثاني ينادي على تكذيبهم، ويسجل بافترائهم، وما ظنك بقوم نبذوا كتاب الله لما روى لهم بعض الثوابت عن عبد الله بن عمرو بن العاص : ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد; وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا، وقد بلغني أن من الضلال من اغتر بهذا الحديث، فاعتقد أن الكفار لا يخلدون في النار، وهذا ونحوه والعياذ بالله من الخذلان المبين -زادنا الله هداية إلى الحق ومعرفة بكتابه- وتنبيها على أن نعقل عنه، ولئن صح هذا عن ابن العاص، فمعناه: أنهم يخرجون من حر النار إلى برد الزمهرير; فذلك خلو جهنم وصفق أبوابها، وأقول: ما كان لابن عمرو في سيفيه، ومقاتلته بهما علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما يشغله عن تسيير هذا الحديث .

                                                                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                                                                الخدمات العلمية