الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 5 ] الباب الرابع: الموصى به

        وهو كما قال ابن عرفة: كل ما يملك من حيث الوصية به.

        وفيه فصلان:

        الفصل الأول: ما يدخل في لفظ الوصية، وملكية الموصى به.

        الفصل الثاني: شروط الموصى به.

        [ ص: 6 ] [ ص: 7 ] الفصل الأول ما يدخل في لفظ الوصية، ووقت ملك الوصية وفيه مباحث:

        المبحث الأول: كل مال مملوك للموصي وقت موته.

        المبحث الثاني: الدية.

        المبحث الثالث: نماء الموصى به.

        المبحث الرابع: وقت ملك الوصية.

        [ ص: 8 ] [ ص: 9 ] المبحث الأول: كل مال مملوك للموصي وقت موته

        اختلف الفقهاء فيما تدخل فيه الوصايا وتنفذ منه، وما لا تدخل فيه من تركة الميت على أقوال:

        القول الأول: أنها تدخل في كل مال مملوك للموصي وقت موته، علم به أو لم يعلم.

        وهو مذهب الحنفية، والشافعية ، والحنابلة.

        الثاني: أنها تدخل في الأموال المملوكة للموصي وقت الوصية، ولا تدخل فيما ملكه بعد الوصية، إلا أن ينص على ذلك في وصيته، كأن يقول: يخرج من تركتي، أو كل ما أخلفه.

        وهذا مذهب الظاهرية، وأحد قولي الشافعية.

        القول الثالث: أنها لا تدخل إلا فيما علم به الموصي عند موته سواء ملكه قبل الوصية أو بعدها، ولا تدخل فيما لم يعلم به قبل موته من إرث ورثه أو وصية وصي له بها، ولم يعلم بها، أو ردها في حياة الموصي، وأجازها ورثته بعد موته المتأخر عن موت من أوصى له، ونحو ذلك.

        [ ص: 10 ] وهو مذهب المالكية، واستثنى بعض المالكية الوصية بالزكاة، والكفارات والهدي إذا ضاق ثلثه، فإنها تنفذ من المجهول لسببين:

        1 - أن يقصد الموصي تنفيذ ذلك وإبراء ذمته منه.

        2 - مراعاة لقول من يقول: إنها تخرج من رأس المال.

        وسبب هذا الخلاف أمور ثلاثة:

        الأول: اختلاف الأصوليين في دلالة الإضافة على العموم أو العهد في قول الموصي: لفلان ثلث مالي ونحوه.

        الثاني: اختلاف الأصوليين أيضا في دخول الصورة غير المقصودة في عموم العام وتناول اللفظ لها، وعدم دخولها.

        ومن رأى أن الإضافة للعهد ليست للعموم قال: المعهود هو المال الموجود وقت الوصية فتختص به، ولا تدخل فيما ملكه بعدها إلا بنص صريح، وهم أصحاب القول الأول.

        ومن رأى أن الإضافة للعموم، وأن العام يتناول بلفظه المقصود وغيره قال: بدخولها في كل مملوك علمه أو لم يعلمه، ملكه قبل الوصية أو بعدها لدخول الجميع في لفظ ماله، وهم أصحاب القول الثاني.

        ومن رأى أن الإضافة للعموم، وأن العام لا يتناول غير المقصود للمتكلم قال: لا تدخل الوصايا في المجهول; لأنه غير معلوم للموصي ولا مقصود له فلا يتناوله لفظه.

        والثالث: اختلاف الأدلة وتعارضها.

        [ ص: 11 ] الأدلة:

        أدلة الرأي الأول:

        1 - قوله تعالى: من بعد وصية يوصى بها أو دين ، فالوصية ذكرت في القرآن مع الإرث والدين، والإرث والدين يدخلان في المعلوم والمجهول، فكذلك الوصية.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأنه مبني على حجية دلالة الاقتران، والصحيح عند الأصوليين عدم حجيتها.

        2 - عموم أدلة الوصية.

        3 - ما تقدم من الأدلة على صحة الوصية في المجهول، والمعدوم، ونحو ذلك.

        4 - الإجماع على اغتفار الجهالة في الوصية، وأنه لا يشترط العلم بتفاصيل المال عند الوصية; بدليل صحة الوصية فيما يحدث بعدها، وصحة وصية الجاهل بتفاصيل ماله، ولو كان العلم بالمال شرطا لما صحت الوصية فيما يحدث، وكذا وصية الجاهل.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأنه لا يلزم من اغتفار الجهل بتفاصيل المعلوم أصله اغتفارها في المجهول المطلق; لوجود القصد في الأول دون الثاني.

        دليل القائلين بقصرها على الأموال الموجودة وقت الوصية: 1 - حديث عمرو بن يثربي قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: « ألا ولا يحل لامرئ من مال أخيه شيء إلا بطيب نفس منه، فقلت يا رسول الله: [ ص: 12 ] أرأيت إن لقيت غنم ابن عمي أجتزر منها شاة ، فقال: إن لقيتها نعجة، تحمل شفرة وأزنادا نجبت الجميش، فلا تهجها قال: يعني نجبت الجميش أرضا بين مكة والجار ليس بها أنيس » .

        2 - حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: لا يحلب أحد ماشية أحد إلا بإذنه .

        وجه الدلالة: أن الحديثين يدلان على اشتراط الرضا وطيب النفس في انتقال الأملاك من شخص لشخص وهو عام في الوصايا وغيرها، والمجهول الذي لا علم للموصي بملكه لم تطب نفسه به ; لأن طيب النفس يقتضي العلم به، وقصد الوصية فيه كلاهما غير موجود، وأيضا المجهول مملوك للموصي غير متيقن من الوصية به، والأصل الاستصحاب، وبقاء ما كان على ما كان، والوصايا لا تثبت بالشك، والأملاك لا تنتقل إلا بيقين، وهذا كله يقتضي عدم دخول الوصية في المجهول الذي لا علم للموصي بملكه عند موته.

        ونوقش هذا الاستدلال: بعدم التسليم، فإنه مما علم أن الموصي قد طابت نفسه بالوصية; إذ هي تبرع بالمال بعد الموت، وهذا تصرف نفعه متمحض.

        [ ص: 13 ] 3 - قياس الوصية على النذر، فإن من نذر ثلث ماله لم يلزمه إلا ثلث ما كان موجودا ساعة النذر ولا شيء عليه فيما ملكه بعده.

        4 - أن المعتبر في العقود وقت انعقادها.

        ونوقش هذا الاستدلال بهذين الدليلين: بأنه قياس مع وجود الفارق; لأن الوصية يصح الرجوع فيها، والنذر لازم لا يصح الرجوع فيه، وأما القول بأن الوصية ليست عقدا من كل جهة، ولذلك لا تعتبر بها الفورية ولا القبول.

        الترجيح :الراجح - والله أعلم - القول الأول; لقوة دليله، ولأن الوصية تبرع بالمال بعد الموت، فدخلها التوسع بخلاف التبرع حال الحياة.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية